تدوينات تونسية

الدجاجة

حسن الصغير

خلال سنوات الجامعة في أوائل تسعينيات القرن الماضي كان الإفلاس والجوع يخرجاننا خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى الشارع الرئيسي بالعاصمة لعلنا نظفر بصديق أو قريب -على قلتهم- يجود علينا ببعض الدينارات أو يقرضنا إلى حين ميسرة باعتبار أن مقاهي الشارع الكبير وحاناته ومطاعمه تكون مقصدا وملتقى للزائرين من كل ولايات الجمهورية.

وذات مساء سبت في يوم شتائي بارد وماطر تلفعت بمعطفي الوحيد الذي اخترته بعناية من سوق الملابس المستعملة وكلفني ثروتي الصغيرة، ثم أنزلتني الحاجة إلى الشارع الفسيح بحثا عن لقمة تسد الرمق، أو سيجارة تعدل المزاج الذي اختل منذ أيام.
وبعد دقائق من وصولي وجدت أحد أبناء قريتي هائما على وجهه هو الآخر ولم يكن هناك داع لأن أشكو له الجوع وغياب السجائر فقد كان واضحا أنه معدم ومفلس يبحث عمن يجيره هو أيضا.
بقينا نذرع الشارع الطويل جيئة وذهابا دون أن نلتقي بمن تبدو عليه ملامح إغاثة الملهوف ثم توقفنا أمام مطعم كبير غصت مقاعده المتناثرة على رصيف الشارع الكبير بالآكلين والآكلات والعمال يركضون هنا وهناك يقدمون الطلبات وأمام صندوق الدفع يقف طابور طويل من الجائعين ينتظرون دورهم.
تعلق نظري بالفرن الغازي عند باب المطعم المليء بأسياخ الدجاج التي تشوى بالدوران حول نار هادئة وكلما نضج سيخ حمله النادل إلى الداخل وعاد بسيخ جديد.
وفجأة استدرت إلى رفيقي وقلت له أتعرف قصة جابر عثرات الكرام؟ قال نعم تلك الموجودة في كتاب السادسة القديم والتي تحكي كيف أن رجلا أفقر بعد يسر سمع ذات ليلة طرقا على الباب فلما فتحه ناوله رجل ملثم صرة من المال فلما سأله من أنت قال أنا جابر عثرات الكرام ثم غاب في الظلام.
قلت فما رأيك لو يلتفت إلينا النادل الآن ويسألنا ألست أنت فلانا بن فلان وأنت ألست فلانا بن فلان؟ فنجيب نعم فيعطينا دجاجة ويقول هذه هدية لكما اذهبا وكلاها هناك ولما نسأله من أنت؟ يجيبنا أنا جابر عثرات الكرام ثم يختفي داخل المطعم.
وأعجبتنا القصة وصرنا نزيد عليها وننقص ونغير ما يجب تغييره ونقهقه إذا أعجبتنا فكرة جديدة كل هذا والنادل المكلف بنزع الدجاج المشوي يعمل بهمة ونشاط وغير مهتم بما حوله أصلا.
ولما بدأت الرياح تهب شمالية باردة وأوشك الظلام على الحلول تأكدنا أن النادل ليس جابرا أبدا لعثرات الكرام والأكيد أنه سيعود منهكا إلى أحد أحزمة الفقر في محيط المدينة وينام متهالكا مثلنا.
ولا أخفيكم أني بقيت لسنوات طويلة وبعد أن فتح الله علي أبواب رزقه كلما مررت من ذلك المكان تذكرت القصة، وصدرت مني ضحكة مكتومة وذات مرة دخلت المطعم واشتريت دجاجة كاملة وحاولت تذكر جوع ذلك اليوم لكني لم أنه إلا ربعها تقريبا وحين هممت بالخروج سألني النادل ألم يعجبك الدجاج؟ أجبت بلى ولكن الحمد لله شبعت سريعا وفي قرارة نفسي وددت لو أجبته ليست لي رغبة في الأكل من البداية ولكني فقط أردت استحضار جابر عثرات الكرام لكن يبدو أن الوقت تأخر، لكنه لن يفهمني بالتأكيد.
الحمد لله الذي كل شيء عنده بمقدار!!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock