تدوينات تونسية

دورة اقتصادية أم سلسلة غذائية ؟

حسن الصغير

جاءت زيادة تعريفة الأطباء الخواص هذه الأيام لتثير موجة جديدة من الجدل عن مدى مشروعية هذه الزيادة وسرعان ما تحولت القضية كسابقاتها إلى تبادل شتائم وتهم وحديث عن جشع الأطباء من جهة وحديث عن تردي حالتهم المادية من ناحية أخرى لينقسم التونسيون ككل مرة.
وقضية الأطباء ليست منعزلة في الواقع عن موجة الحراك القطاعي التي انفجرت بعد سقوط نظام 7 نوفمبر نتيجة سنوات طويلة من الحيف واللامساواة والظلم الاجتماعي وتدجين أغلب النقابات حتى انشغلت عن رعاية مصالح منظوريها بالتسابق في الولاء والاعداد للاحتفال بالتغيير.
والغريب أن كل قطاع يشرع اليوم لنفسه الحق في الزيادة والاحتجاج بكل الوسائل حتى لو أضر ذلك بغيره بينما يحرمه على غيره إذا مس الاحتجاج حياته اليومية أو ميزانية أسرته، وهو ما يعني أننا أمام قضية وعي مجتمعي مختل وثقافة تشاركية منعدمة تنبني على توحش القطاعية على حساب المصلحة العامة وتسلط المنفعة الفردية على حساب المجموعة.
فالطبيب الذي يدافع اليوم بكل قوة عن شرعية الترفيع في معلوم الكشف الطبي كان بالأمس حانقا على الأستاذ الذي حجب أعداد أبنائه التلاميذ للمطالبة بتحسين أوضاعه المادية، والطبيب والأستاذ التقيا معا قبل فترة في التنديد بسائقي سيارات الأجرة ووسائل النقل العام لأنهم عطلوا التنقل اليومي لأسرتيهم من خلال إضرابهم لتحقيق مطالب قطاعية لا تعنيهما.
وسواق سيارات الأجرة أنفسهم ضجوا وشتموا سواق شاحنات نقل الوقود لما أضربوا وعطلوا مصالح آلاف السواق الذين تكدست سياراتهم أمام محطات الوقود الفارغة، وكل هؤلاء يحملون ضغينة كبيرة على الجزارين والخضارين الذين رفعوا في أسعار اللحوم والفواكه وأثروا سلبا على ميزانيات أسرهم المهترئة أصلا.
وفي الواقع دخل مجتمعنا في دوامة لن يخرج منها أبدا لأن فارق السعر في كشف الطبيب سيدفعه للأستاذ ثمنا لدروس أبنائه الخصوصية والأستاذ بدوره سيدفعه لسائق سيارة الأجرة الذي رفع في معلوم النقل وسائق سيارة الأجرة سيدفعه بدوره للجزار والخضار اللذين رفعا في سعر اللحم والخضر وهذان أيضا سيدفعانه لعامل البناء او اللحام او الحداد او النجار الذين رفعوا في تعريفاتهم تماشيا مع الموجة وفي المحصلة لن يستفيد أي طرف من هذا المبلغ وبعد فترة وجيزة سيعود أحدهم للترفيع في سعر خدمته مجددا ويليه الآخرون وهكذا دواليك.
وبطريقة أبسط لم نعد أمام دورة اقتصادية يستفيد فيها الجميع من السيولة الموجودة ويتحقق النمو من خلال زيادات دورية ومدروسة تضمن استفادة الجميع بل أصبحنا أمام سلسلة غذائية يعتمد كل قطاع أو فرد فيها في معيشته ونمائه على التهام قطاع أو فرد آخر أضعف منه والضعيف سيتسلط بدوره على الأكثر منه ضعفا وهكذا دواليك، لكنها سلسلة غذائية ليست محكومة بقانون الطبيعة الذي يضمن استمراريتها وهو ما يهدد بكارثة، ولعلكم تذكرون ما حدث عندما أضرب عمال رفع القمامة وما أصبحت عليه حال المدن فماذا لو سحقت هذه الطبقة الضعيفة تماما واندثرت ولم يعد هناك عمال لرفع الفواضل؟
وفي المحصلة أعتقد أننا سنظل في هذه الدوامة التي تسير بنا إلى الهاوية ما لم تتدخل الدولة بصرامة وحزم وتحدد مقدار كل زيادة وحجمها وفق دراسات علمية دقيقة وما لم يتطور الوعي المجتمعي وتنتشر ثقافة المجتمع المتكامل لتحل محل العصبية القطاعية التي تفتك بجسد الدولة المنهك.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock