مقالات

طابع العصا البيضاء

حسن الصغير

كنا في أواخر سبعينيات القرن الماضي نعيش كل سنة في المدرسة أحداثا موسمية بعضها يحمل الخير وننتظره بفارغ الصبر مثل توزيع المساعدات المدرسية، وهي عبارة عن ميدعات وأحذية، وبعضها يحمل لنا معه معاناة جمة مثل طابع التبرع لجمعيات المكفوفين المعروف باسم طابع العصا البيضاء.
وكنا نخاف هذه المناسبة ليس بخلا أو كرها للعمل الخيري لكن لأننا كنا فقراء بالكاد نحصل على قوت يومنا فما بالك بالتبرع؟

وكان المعلمون يلاقون هم الآخرون صعوبة بالغة في توزيع تلك الطوابع ذات الخمسين مليما، فهم يعلمون أن جل التلاميذ ينتمون لأسر تحت خط الفقر، لكنهم يوزعون تلك الطوابع عليهم مكرهين لأن ليس لديهم حلول أخرى، فالمدرسة مطالبة بتسديد ثمن ما تسلمته من طوابع.
وكان أغلب الأولياء يوصون أبناءهم بعدم أخذ الطوابع بسبب العوز والفاقة، لكننا كنا نضعف أمام المعلم ونأخذ الطابع فمن يستطيع أن يرفض للمعلم طلبا؟ وعلى أية حال فتأنيب آبائنا أرحم لدينا ألف مرة من أن نقول لا للمعلم.
ولما كنت في الصف الرابع حدثت لي قصة عجيبة مع هذا الطابع، فبعد توزيع طوابع التبرعات وإعطائنا درسا إنسانيا مؤثرا عن قيمة تبرعاتنا وفائدتها لمن فقد البصر أخذنا طوابعنا وعدنا إلى البيوت ونحن نعد لمعركة الحصول على الخمسين مليما.
وحتى نقرب الصورة في تلك الفترة كان الكراس المدرسي بـ 20 مليما، ولتر النفط (القاز) بعشرة مليمات، وكيلوغرام الملح بـ 15 مليما وربع الخبز بـ 20 مليما.
وفي المساء خضت حربا شعواء مع والدي رحمه الله وأعدت له قصة حاجة المكفوفين للخمسين مليما التي رواها لنا المعلم وزدت عليها من عندي حتى كللت مفاوضاتي بالنجاح وحصلت على الخمسين مليما.
ومن الغد كان يوم العطلة الأسبوعية فقدت الأغنام لأرعاها في الجبل القريب، وأخذت معي الخمسين الثمينة لألهو بها، وربما يحالفني الحظ فألتقي أحد أقراني الرعاة فأستعرض أمامه ثرائي الفاحش متباهيا وأوهمه بأن الخمسين مليما مصروفي الشخصي.
كان اليوم خريفيا باردا ومتقلبا بين شمس خجولة وغيوم تمر سراعا وتحجب عني أحيانا قمة الجبل الذي انتشرت شويهاتي على سفحه الجنوبي تقتات على البراعم الصغيرة التي نبتت بعد مطر أكتوبر.
ومع اقتراب الشمس من الزوال تلبدت سحب سوداء داكنة فجأة وهبت رياح قوية وبدأت نذر العاصفة من بروق ورعود بات وميضها وهزيمها يقتربان شيئا فشيئا فسقت القطيع على عجل وقطعنا الوادي ركضا نسابق العاصفة التي داهمتنا وأدركتنا على مسافة قليلة من البيت.
وبعد أن لاذت الأغنام بالزريبة واحتميت بالبيت وانهمر المطر مدرارا كأفواه القرب تذكرت الخمسين مليما، فبحثت عنها دون جدوى وبات من شبه المؤكد أني أضعتها خلال الركض هروبا من العاصفة على سفح الجبل وعلى طول الوادي وصولا للبيت وكان البحث عنها أمرا غير ذي جدوى لاتساع رقعة البحث ولهطول أمطار غزيرة غيرت كل معالم طريق العودة.
ورغم المصاب الجلل فضلت عدم إخبار الأسرة خوف عقوبة الوالدين وشماتة الإخوة، وفكرت في البحث عن البيض حتى أبيعه وأسدد ثمن الطابع لكن المحاولة باءت بالفشل.
وحين طلع صباح الاثنين كنت قد عقدت العزم على أخذ قصتين حصلت عليهما كجائزة لتفوقي في الدراسة لعلي أقنع بعض التلاميذ من الميسورين بشرائهما وأسدد ديني.
وفي الطريق نجحت في إقناع تلميذ بشراء القصتين ولكنه أصر على دفع ثلاثين مليما فقط 20 لقصة بالعربية و10 لقصة بالفرنسية ويبدو أن ذلك كل ما لديه.
وفي الفصل حين بدأ التلاميذ يضعون النقود على الطاولة تقدمت من المعلم والخجل يكاد يقتلني وقلت بصوت حرصت على ألا يسمعه غيره سيدي ليس معي سوى 30 مليما.
ودون أن ينبس ببنت شفة أخذ مني المبلغ ثم أخرج من جيبه نقودا اختار منها 50 مليما وضعها مع مبلغ التبرعات، وحين قفلت راجعا ناداني بصوت تعمد أن يسمعه الجميع “حسن تعال خذ بقيتك” ثم ناولني مبلغ الثلاثين مليما الذي أخذه مني.
عدت أدراجي إلى مقعدي وقد خنقتني العبرة ثم بكيت بصمت، فقد اختلطت علي المشاعر ولا أدري هل بكيت لمروءة سيدي الذي دفع عني المبلغ وسترني من ألسنة التلاميذ، أم لاضطراري لبيع جوائزي، أم لضياع الخمسين مليما في سفح الجبل؟!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock