مقالات

المرزوقي والاعتبار

منذر بوهدي

خطوة الى الوراء ليتقدم خطوتين الى الامام

عندما أعلن الدكتور محمد المنصف المرزوقي استقالته من حزب الإرادة مساء يوم 24 نوفمبر 2019، تملكتني رغبة في معانقته لأنه أزاح كابوسا علق به لسنوات وكبده خسارة مدوية في انتخابات 2019 كان بالإمكان تجنبها والحفاظ على الاعتبار الذي ناضل هو ورفاق دربه من أجله لعقود طويلة والتحقنا به يوم اقتنعنا أنه لا خلاص لنا إلا برد الاعتبار للجميع…

‎وعادت بي الذاكرة الى أواخر سنة 2011 ‎عندما ‎دخل الدكتور محمد المنصف المرزوقي بخطواته المتسارعة إلى بهو المكتب الجهوي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية بأريانة وطلب من أحد الأصدقاء أن يسعفه بكسكروت “ملاوي”… لقد كان الرجل يشبهنا حد النخاع، ‎ثم دخل القاعة وتحدث قليلا عن تنقلاته ‎الى كل جهات البلاد لخوض غمار الحملة الانتخابية آنذاك وأنه متفائل جدا وان الثورة تحقق استحقاقاتها الاساسية من خلال تجسيد إرادة الشعب في اختيار من يحكمه عبر آلية الانتخابات الحرة والنزيهة والشفافة ومن ثم عرج بحديثة عن مسالة الاعتبار ‎وقال عبارات لازالت تدوي في أذني “حتى الساعة سنعيد الاعتبار للسياسة والسياسيين وسنعيد توزيع الاعتبار والثورة على أبناء شعبنا العظيم”.

‎كان حديثه هذا لا يشبهنا، ولكنه يحرك الساكن فينا، ويذهب الى اختزال أوجاعنا وامراض مجتمعنا في كلمات ومختصرة ومدوية في الآن ذاته، والتي بتفجيرها الى خطط وبرامج تفصيلية، يبدو لك جليا انه ستشفى كل الدولة وسيصلح كل ما أصابها من اعوجاج وتفكك. ‎كانت عيونه تنطق صدقا وعفوية وكانت الشجاعة ‎والإرادة والحكمة والدهاء والذكاء والصبر لتحقيق ما تختزله كلمتي الثورة والاعتبار بارزة في نبراته وقسماته وكل كلماته.

‎ لقد كانت معارك الاعتبار عديدة، وقد تحقق البعض منها ‎التي ساهم المرزوقي في إرسائها كحرية التعبير والفكر والدستور والهيئات المنبثقة عنه، والتداول السلمي على السلطة، وغيرها من مكتسبات ما بعد الثورة ولكن هناك شيء ما مفقود في اللحظة الحاسمة لحظة تحويل الأفكار الكبرى الى مشاريع وطنية تتنزل بكل اقتدار وبزخم جماعي على ارض الواقع فلقد مثل الاعتبار في منطق الإنجاز والتفعيل ثقل عقود من العمل الدؤوب والمراكمة والمواجهة مع قوى الجذب ‎والشر في بلادنا..،

من ناحية اخرى وبقدر ما كان ‎للرجل من قوة الأفكار ووقعها على الجماهير بقدر ما غاب عن الدكتور المرزوقي دور رجل التنظيم ‎والتنقيب على التفاصيل الدقيقة لنجاح كل الخطط المرحلية والبينية ولتماسك البنيان أكثر وأطول وقت ممكن ‎وفي وقت حاسم تخلى عن اعتى جنرالاته بسبب معارك جانبية وهامشية، لا تعدو ان تكون الا مناكفات طبيعية، كان من واجبه بل من الإجباري عليه إزاحتها وتذليلها من أجل الهدف المنشود، وهو الاعتبار للجميع وكان الأحرى حسم معركة “الاعتبار” اساسا لرفقاء دربه وقيادات مسار التغير المنشود.

‎لقد كانت مسالة الاعتبار تلك هي الكلمة المفتاح لجل الهزائم ان صح التعبير التي لحقت المرزوقي والمؤتمر من أجل الجمهورية وكل تفرعاته فيما بعد ‎فقد انسحبت كل كفاءات الحزب من الساحة بعيد انتخابات 2011 بسبب مسألة الاعتبار تلك التي لم يجتهد المرزوقي في التعاطي معها وفق ما تتطلبه من حنكة وحكمة ودهاء لإنجاح المرحلة والحفاظ على التنظيم الحزبي الفريد من نوعه آنذاك والذي من دونه ومن دون تنمية بنيته الفكرية وموارده البشرية والمالية لن يتجاوز الاعتبار أسوار القصبة القديمة.

‎لا شك ايضا ان محاولات المرزوقي الاستقالة من منصب رئيس الجمهورية في ‎مناسبات معلومة، عندما بدأت تتسرب الى نفسه البعض من وقع “الخيانات” المكياڤيلية في السلطة، وأصبحت مسالة الاعتبار ايضا في الميزان في كل مرة، وبتراجعه في آخر المطاف، وترك الأمر “للبراڤماتية الواقعية” تم ايضا زعزعة رصيده من الاعتبار الذاتي ازاء المرزوقي الحقوقي والمفكر، والتي كلفته بعد فترة جل رصيده النضالي، وكادت تعصف برصيده الفكري والثقافي، لولا أنه كان يخصص من وقته لقلمه ولفكره ما يذهب به بعض من الغفوة في ملذات السلطة.

‎لم أكن أتصور يوما أن يخرج الدكتور ‎محمد المنصف المرزوقي من الباب الخلفي للعمل السياسي والحقوقي، ولا أتصور أن ذلك قد حصل بالشكل الذي بدا للبعض، حتى بعد إعلانه أنه انسحب من حزب الإرادة، فلماذا ينسحب هذا الرجل العنيد والقوي وصاحب الامتداد الدولي من الساحة وهي في أوج الصخب، وتتهدد البلاد والعباد آفات كبرى؟ ‎لماذا ينسحب ومسالة الاعتبار لم يرد إلى أهله؟

‎وأرجح أن الدكتور المنصف المرزوقي لازال يخوض المعارك، والتي تدار من مواقع مختلفة، وأظن انها مسألة تموقعات، تتغير وفق المراحل وآلياتها وأدواتها الضرورية، والتي يرى أنها أكثر نجاعة وفاعلية، واحسب انه من خلال بوابة الثقافة والفكر والمجالات البحثية والأكاديمية وبوابة الحقوق ومنها السياسية في العالم والوطن العربي سيكون له دور جديد.

‎لقد ترجل سلم الأحزاب ليعود لمركب النضال فكل القضايا التي عرضها في خطابه لا تزال جاثمة على صدورنا ولا مجال للانسحاب من المعارك الكبرى وهكذا هو المرزوقي بلا شك ولا ريب

‎لا يغادر السفينة إلا الجبناء ولا احسب ان من قارع الدكتاتورية لعقود قد يخطر بباله بوما ‎انه سينسحب ‎خطوة إلى الوراء ليتقدم خطوتين الى الامام.

‎والله اعلم

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock