مقالات

حكومة اللاعودة

منذر بوهدي

بعد ماراطون المفاوضات والمشاورات بين الأحزاب والفاعلين السياسيين لتكوين أغلبية حكم والتي بدأت بشكل غير رسمي منذ إعلان النتائج الأولية للانتخابات التشريعية يوم 13 أكتوبر 2019، كان من المرتقب أن تشكل أغلبية برلمانية إبان أول جلسة برلمانية لانتخاب رئيسه ونائبيه تُحدد على أساسها مسارات تشكيل الحكومة وتوزيع اللجان البرلمانية وفق ارضية الانتماء لمنظومة الحكم ومنظومة المعارضة، وخيار تشكيل حكومة “ثورية” بين الشركاء المحتملين لتشكيل حكومة منسجمة مع تطلعات الناخبين التونسيين ومتكونة أساسا من حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة كداعم غير مشارك بشكل مباشر…

ثم جاءت مرحلة ما عرف “بجلسات الشاي” لرئيس الحكومة المكلف السيد الحبيب الجملي التي بدت موسعة ومنفتحة حد “الميوعة” والانطباع بالتيه والضياع ولا أحد من المتابعين بات يمسك بخيوط المسار المتبع للوصول الى الحكومة المرجوة أو أن انطباعا ساد في هذا الاتجاه في حين يرجّح البعض أن ذلك كله كان متعمدا لربح الوقت وانهاك المفاوضين وإدارة اللعبة بمنطق السذاجة المصطنعة والدهاء المبطن…

ثم جاءت مبادرة كل من السيدين الحبيب بوعجيلة وجوهر بن مبارك باعتبارهما شخصيات منحازة لخيار الشعب المعبر عنه في انتخابات 13 أكتوبر ولاستحقاقات الثورة وكانت مبادرتهما منسجمة مع قناعتهما وميولاتهما الفكرية والأيديولوجية التي عرفا بها والتي حاولا من خلالها تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين وخصوصا كل من التيار والشعب والنهضة لضمان الوصول الى حكومة إصلاحات ثورية مسنودة بحزام سياسي واسع وقوي وصلب يمكن أن يساهم في الخروج بالبلاد من مناطق الزوابع التي تمر بها البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتمكنا من التقدم في ذلك أشواطاً كبيرة بعيدا عن مطبات الاختراق وقد كانت إرادة كل من رئيس الحكومة المكلف والذي اعتبر أنه ستكون حكومته تلك الأقوى والأفضل منذ الثورة وهو ما سعى من أجله بكل ما يملكه من آليات رغم محدودية سيطرته على كل مفردات عملية التشكيل الحكومي وكذلك حركة النهضة التي تسعى الى توفير اكبر حظوظ النجاح لحكومة الجملي المحسوبة عليها اولا ولانها تدرك تفاصيل كل الأزمات التي تحدق بالبلاد داخليا وخارجيا وتسعى الى توفير الحدود القصوى لعدم إفلاس الدولة وسقوط السقف على الجميع وكانت ستكون حكومة الثورة بحق حكومة القضاء على الفساد بأيادي التيار والحفاظ على المكاسب الاجتماعية ودعمها بوجود حركة الشعب غير أنه وبعد ان بات الحل قريبا تفرق الجميع وحصل انطباع بعد كل ذلك لدى شرائح واسعة من المتابعين للعملية ان التيار والشعب هما من “عطّلا” حصول اتفاق والذهاب الى حكومة “ثورية” دون مبررات كافية تفند مزاعم حركة النهضة انها قدمت كل التنازلات الممكنة لكسب ودهما وكانت ردود القيادات من هنا وهناك لا تتجه الى عمق الأحداث والأفعال ولَم تتخلص من الإسقاطات والمخاوف الجزافية وأمعنت في التخفي وراء العبارات المبهمة “الثقة” “الفساد” وغيرها ومن الحكمة ان كانت ضحية ان تصارح الشعب بما جرى بكل تفاصيله…

ثم بعد ذلك ووصولا الى مبادرة ما بعد الوقت الضائع والمتمثلة في دعوة رئيس الجمهورية لكل من حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وحركة تحيا تونس الى استئناف المفاوضات بعد إعلان كل هذه الأطراف قبل وقت قصير انتهاء المفاوضات دون الوصول إلى ارضية “الثقة” التي تجعل الاتفاقات الممضاة قابلة للتنفيذ وتتسم بالجدية الكافية لترقى لأرضية شراكة حكم. وقد كانت هذه المبادرة الأكثر غرابة باعتبارها خارج الزمن الدستوري ومجانبة لادنى أسس المنطق لأنه كان بديهيا أن ترفض الأطراف الفاعلة وخصوصا حركة النهضة سحب البساط ممن اصبحوا قبل سويعات في الضفة الاخرى ويصبح الرئيس طرف في تقريب وجهات النظر والحال أنه كان مطالبا بالتريث والمراقبة الى حين انتهاء المدة الدستورية حتى لا يكون جزء من المشكل ويبقى ملاذ عند انتهاء كل المسارات الاخرى الى الفشل في تشكيل الحكومة ثم ان قرار حكومة الكفاءات وهو المنفذ الأخير للحركة لتجنب الذهاب الى خيار حكومة الرئيس الذي سيؤدي موضوعيا الى انتخابات سابقة لأوانها واستئثار “حزب الرئيس” وائتلاف الكرامة بموقعي الصدارة وتراجع كل الاحزاب الاخرى بشكل ربما مؤثر على المشهد السياسي وهو ما يخشاه الجميع ومن هذا المنطلق يرجح أن مرور حكومة الحبيب الجملي التي صرح أنه سيعتمد معايير الكفاءة والنزاهة ونظافة اليد لاختيار الشخصيات المكونة لحكومته وهو ما يؤهلها لتكون حكومة عمل وإنجاز منذ الأشهر الأولى باعتبار أن هذه الكفاءات من المفترض أن لها دراية معمقة وتحكم تام بكل جوانب الحقائب التي سيكلفون بها ولهم من المهنية والقدرات القيادية والتسييرية لكي تؤهلهم للفعل السريع الناجع.

غير أن حكومة الجملي المرتقبة ربما ستكون في حاجة الى سند برلماني لمنحها الثقة البرلمانية ويمكن أن يكون ربما نفس السند الذي انتخب الأستاذ راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان وفِي مرحلة ثانية تحتاج حكومة الجملي المرتقبة وفق التصريحات الأولية وما يدور في الكواليس الى أغلبية برلمانية تقنية مستقرة وقادرة على دعمها في الملفات الحارقة والإصلاحات الكبرى وهو ما سيمثل الاختبار الحقيقي لمدى تماسك السند البرلماني لحكومة الجملي ويبدو خيار حكومة الكفاءات الوطنية للسيد رئيس الحكومة المكلف الحبيب الجملي ومن ورائه حركة النهضة هو حكومة اللاعودة في مسار التفاوض وستكون ايضا ربما حكومة اللاعودة في الإنجازات والاستجابة للاستحقاقات الحارقة للشعب التونسي في محاربة الفساد والفقر والتوازنات المالية الكبرى ودفع الاستثمار والتشغيل وإصلاح للمؤسسات العمومية وإدماج الجهات المهمشة والحفاظ على ثروات البلاد من حبوب وتمور وزيتون وقوارص وغيرها وإذا لم تكن كذلك فمصيرها السقوط المدوي في أول المنعرجات الكثيرة في طريقها المحفوف بالمخاطر والمطبات…

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock