تدوينات تونسية

مالك بن نبيّ بين كمّاشة الإستعمار والتّشدّد الإسلامي والعلماني

صالح التيزاوي

في الحادي والثّلاثين من أكتوبر من عام 1973، رحل المفكّر والفيلسوف الجزائري عن هذه الحياة، تاركا لقرّائه وللمصلحين من بعده مدوّنة فكريّة ضخمة غطّت جميع مراحل حياته بين الجزائر وفرنسا والقاهرة. حاول من خلالها الإجابة على سؤالين مهمّين شغلا بال المصلحين والمجدّدين من قبله: ما هي أسباب تخلّف المسلمين؟ (أسباب السّقوط) وما هي الشروط الموضوعيّة لاستئناف دورهم الحضاري؟ (شروط النّهوض).

في باريس أصدر كتابه الأوّل “الظّاهرة القرآنيْة” عام 1946 ثمّ كتابه الثّاني “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” عام 1948. لم يشفع له استعمال اللّغة الفرنسيّة، ولم يشفع له تخصّصه العلمي، حيث تخرّج مهندسا في الكهرباء، كما لم يشفع له زواجه من سيّدة فرنسيّة، فأبعدته السّلطات الفرنسيّة إلى القاهرة، بسبب تأييده لمعركة التّحرير الجزائريّة ضدّ الإحتلال الفرنسي ويسبب كتاباته التي تستهدف إصلاح الأفكار في العالم الإسلامي حتّى يستأنف دوره الحضاري في الشّهادة على النّاس. أدركت سلطات الإستعمار أنّ مهندس الكهرباء، يستعمل اللّغة الفرنسيّة مجرّد وعاء لأفكاره الإسلاميّة وأنّه ليس مثل غيره من العملاء الذين اتّخذوا من اللّغة الفرنسيّة ثقافة وأسلوب في الحياة ومنهجا في التّفكير… فكان قرار إبعاده، وشكّل ذلّك بداية “الإسلاموفوبيا” التي ظلْت في تصاعد مستمرّ بسبب العلمانيّة الفرنسيْة الأكثر تطرّفا في العالم الغربي.

وفي القاهرة حيث تتالت كتابات مالك بالنّبيّ، اصطدم بصخرة الجمود الدّيني، فاعتبره علماء الأزهر والبعض من قادة الإخوان علمانيّا ليبراليّا، يمثّل خطرا على الثّقافة الإسلاميّة لكونه يستعمل اللّغة الفرنسيّة ولكونه يستخدم منهجا علميّا، يعتمد على تقصّي أسباب تخلّف المسلمين، على أساس من علم النّفس والإجتماع وسنن التّاريخ بعيدا عن إثارة العامّة بشعارات فضفاضة مثل “الرّجوع إلى الإسلام” و”الإسلام هو الحل” دون توضيح لماهية الرّجوع ودون تفصيل للحلول. وقد حزّ في نفسه وآلمه كثيرا إعراض السّاحة الإسلاميّة في مصر عن كتاباته. العلمانيّون أيضا من الفرانكفونيين العرب ومن أذيال الإستعمار ومن الشّيوعبين، توجّسوا منه خيفة، فناصبوه العداء واعتبروه إسلاميّا، يمثّل خطرا داهما على نموذخ التّحديث الذي يرون مروره بالضّرورة عبر المحاكاة والتّقليد للنّموذج الغربي.

ولكنّ فيلسوف الحضارة مضى في طريقه غير عابئ بخصومه لا يشغله شيء سوى تقصّي أسباب سقوط الأمّة وبحث شروط نهوضها.. وقد عاب مالك بن نبيّ على المصلحين من قبله في العالمين العربي والإسلامي أنّهم شغلوا أنفسهم بدراسة أعراض المرض دون أن يصلوا إلى المرض في حدّ ذاته، لذلك لم تفض مقارباتهم إلى نتائج ملموسة. فكيف يرى الأمر مالك بن نبي؟

يعتبر مالك بن نبي أن مشكلة الأمّة حضاريّة بالأساس، ولابدّ أن تكون الحلول حضاريّة، لذا صدرت كلّ مؤلّفاته تحت عنوان موحّد “مشكلات الحضارة”. والحضارة عنده إنجاز، لا يوهب ولا يشترى ولا يستورد. وقدّم للأمّة والقائمين على الشّأن العامّ مقاربة، تربط قيام الحضارة بعناصرها الأساسيّة، التي لا تقوم الحضارة إلّا بمجموعها (الإنسان + التّراب + الزّمن)، وأيّ أمّة تحسن توظيف هذه العناصر الأساسيّة، فإنّها حتما ستصل إلى الإبداع الحضاري. رافضا فكرة التّقليد الأعمى للغرب في حلوه ومرّه كما نادى بذلك طه حسين، ورافضا فكرة الإحتماء بالماضي ومحاولة
إسقاطه على واقع مختلف، كما يروّج لذلك أصحاب الفكر الدّيني التّقليدي ورافضا استسهال توريد المنتجات الغربيّة كما فعلت الدّول النّفطيّة العربيّة لأنّ “تكديس منتجات الحضارة” لا يصنع حضارة. وإنّما الحضارة هي التي تصنع أفكارها وتصنع منتجاتها الضّروريّة لاستهلاكها.

وهذا ما جعل فيلسوف الحضارة مالك بن نبيّ في مرمى القصف الإستعماري والعلماني والفكر الدّيني المتجمد.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock