تدوينات تونسية

لا معارضَة تقْلِيديّة زَمن البِناء

المنجي السعيدي

رغم التّحَوُلات الكبِيرة التِي أحْدثتْها الثّورة التّونسيّة في العَقل والواقع المحلّي والدّولي، ومهْما كانت الإضَافات التي أثْرَت بها الفِكر السّياسي، وأيّ كانت النّجاحاتُ التِي أحرزتْها باعْتِراف فلاسفة الثّورات ومنظِّرِيها، فقد ظلّ العقْل لدى نسْبَةٍ كبيرة من المتهافِتِين على الاستعراض السّياسِي فِي تونس قَابِعًا فوْق ربْوةٍ قاحِلة جدْبَاء لا يُنمِّيها غذاءُ الثّورة ولا يرْوِيها ماؤها وظلّ يَجْترُّ بَقَايَا فِكْرٍ قَدِيم مُهْترئٍ تعود جذُورُه إلى فتراتٍ المرْحلة القروسْطيّة وما بعدها وبداية ظهور مفاهيم السلطة لدى بعْض الفلاسِفة والمُفكِّرِين أمثال هيجل وماركس وحنة أرندت وماركيز… دُون محاولَة موْقعة هذا الإنْتاج البشَرِي فِي إطارِه الزّمكانِي حتّى يقع تقْيِيمُه ووضْعُه على مِحكِّ الاخْتِبَار ضِمْن التّجْرِبة الإنْسانيّة التِي تشْهدُها الكرة الأرْضيّة قاطِبةً. فقدْ كانت نتِيجة هذا الجمودِ Inertie وعدم الاسْتِعْداد لِمسَايَرة التحوّلات blocage spirituel أن ألْقَى ذلِك بظِلاله على المواقف الشّخصيّة والحزْبِيّة فعتّمَها، وطَال خِيارات الدّولة لحقْبتيْن (البورقيبِيّة والنّوفمْبريّة) سيما وأنّ هؤلاء الجامدِين اليوم سواءً نسبُوا إلى أنفِسهم الثّوريّة أو الحداثيّة أو التقدّميّة كانوا همْ منْ هنْدَسَ للاسْتِبْدادِ وزيّن وجْههُ علنًا أو منْ وراء السّتُر.
ولمْ تسْتطِع الثّورة رغْم ما أحدثتْه منْ رجّةٍ على مستوى العقْلِ والنّفْسِ أنْ تلِج إلى داخل هذه العقول فتُجدِّدها، لِشدّة ارتباطِها بأوهام الوثوقية الفكْريّة أو التّحجّر العقْلِي ossification mentale اللّذان تقع تغذيتُهما عادةً بالأطْماع الشّخصيّة والارتزاق السّياسي. ولِذلِك ظلّت مفاهِيم المعارضة وسلوك معظمِ هُوَاتِها تتِمّ من خارِج فضَاءِ الحكْم لِجُبْنٍ أو طمعٍ أو سوء نيّةٍ ـ تماما كما تُمارَسُ قدِيمًا فِي إطارِ مفهوم الصّراع والاسْتقْطاب الضّدِّي.
وباعْتِبار هشَاشة الحسِّ الوطني الذِي خرّبتْه فتراتُ الاسْتِبْداد، والتصحّر الذِي طبَع العقْل السّياسي الذِي يَفْتقِرُ إلى تقَالِيد ديمقراطيّة تُؤسِّس للتعامُل الرّاقِي مع الآخر المُخْتلِف فقد رأيْنا -للأسف- انْحِدَارًا كبِيرًا في مسْتوى التفاعلات السّياسيّة، انْحِدارٌ ينْطلِق فِي بِدايَتِه من المفْهوم التّقْلِيدي للمعارضة التِي ترفض المشاركة فِي الحكْم وتتَنصّلُ منْ المسْؤوليّة -ليْس منْ أجل اختلافات في المنهج أو البرْمجة، وإنّما بِسبَبِ ترسُّباتٍ ذهْنِيّة أو ثقافات إيديولوجية عدائيّة تخلّى عنها حتّى مؤسِّسُوها- ليتطوّر في مرْحلة ثانِية إلى ضرُورة إثْبَاتِ عجْزِ منْ يُمارِس السّلطة ويتحمّل عِبْأها ودفْعِه إلى ذلِك، ليسْتقِرّ الخِيارُ في مرْحلةٍ ثالِثة فِي ممارسات التّعْطِيلِ والهَرْسلة والاتّهام والشّيْطنة من خِلال إعْلام مسْعور وعمالات مفضوحة لدولٍ خارجيّة ومحاولاتٍ داخليّة made in tunisia تبْلُغ حدّ التّضحية بالوطنِ وإهدار الدّماء وتبْدِيد الثرْوة وبثّ روح الإحباط منْ أجْلِ عدم السّماح بالنّجاح لمنْ كانت له شجاعة تحمّل المسْؤوليّة حِين غاب عنْها الآخرون ولمْ يسْتوْعِبُوا إمكانية تصوّر مشهد المعارضة من داخِل فضاء الحكْم واعتِبَارِ أنّ الدّولة هي -تمامًا كحزْبٍ سياسيّ ديمقْراطِيّ (النّهضة خيْر مِثال)- هيْكلٌ يتّسِع للْجمِيع إسنادا أو مُعارضة قبُولًا أو رفْضًا دون السّعْيِ إلى إسقاطها أو التّفرِيط فِي مكاسِبِها منْ أجِلِ إزاحة خصْمٍ سياسيّ حاكم بالضّرورة وليْس بالاخْتِيار.
وقدْ حازتْ تونس على أكبر عددٍ من النّماذج والسّلوكيّات المتخلّفة والمُغْرِضة، ولا تزَال الحالة مستمِرّة لتنْضاف إليْها فِي فتْرة ما بعْد الانْتِخابات الأخِيرة مهازِل صبْيانيّة صادِرة عنْ شخْصيّاتٍ نكِرةٍ أو أحزاب تحصّل جلّها على مقاعد برْلمانيّة “بالفضلات”، لتتطاول على الدّسْتور وتثْبِت عدم مدنيّتِها وتعطُّلِ قاموسِها اللّغوي (دولة الرّئيس) أو منْ خانتْه الحجّة فبات يُلوّح بحيازة مِلفّات فسادٍ لم يقدّمها للقضاء رأفة بأصحابِها الذِين يعْتبِرهم فِي الأصل أعداء أو منْ اسْتعدّ أن يضاجِعه شيْطان إذا ساعِده على السّطْوِ على نتائج خيار الشّعْب… والحال أنّه ـ وفِي فِتْرة البِناء ـ لا مجَال للمعارضة منْ خارِج فضاء الحكم وسدّتِه، باعْتِبار أنّ الانتِخابات هِي استفتاء على من سيحْكم وأنَّ فِي فضاء الحكْم مُتّسَعٌا رحْبٌ للاقتِراب منْ مواقع القرارِ وفهْم خفاياها والمشاركة فِيها ونقدها وإصلاحها، وكلُّ هروب منْ تحمّل المسؤوليّة والرّكون إلى سهولة الصّراخِ والنّدِيب والعوِيل خارِج إطار المشاركة في البناء يُعتَبَر عجْزا وارتِهانًا وتلاعُبًا بمصالِح الشّعب إن لم نقل خيانة للوطن وتعْطِيلا لفرصِ التّسْرِيع فِي نجاح ثورته.
طبرقة في 22 أكتوبر 2019

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock