دفاعا عن السياسة

عبد الرزاق الحاج مسعود

الذين صوّتوا لقيس سعيّد هم الوجه الآخر للذين صوّتوا للقروي :
حين كنا شبابا جامعيا مسيّسا حدّ الجنون/العقل، كنّا نعيش حلمنا الوجودي حياة كاملة.
كنا عموما أقليات مجنونة تجازف بمواجهة الدكتاتورية بسلاحين: الشجاعة والمعرفة.
كنا نحلم بإسقاط النظام البوليسي الفاسد والعميل للأجنبي بحثا عن يوتوبيا شيوعية أو/ودينية أو/وقومية وحدوية ونستعين على الحلم برافدَيْ الشجاعة الأخلاقية والتأسيس المعرفي: التاريخي والفلسفي والأدبي الجمالي لليوتوبيا السياسية.
وكانت التضحية بالعمر مسألة بديهية: كنا نعي تماما أننا كـ”طليعة” لدى اليسار والقوميين وكـ”جيل قرآني فريد” لدى الإسلاميين نمهّد الطريق بأعمارنا لـ”مثال”/ بديل” قادم.
أيامها كان الحزب السياسي تنظيما سريا محكم الغلق لا يدخله إلا “المجتهدون” في الرفض والحلم والتفكير المختلف. (الاستثناءات موجودة طبعا وأسبابها عديدة…).
•
أمام موضة القول بنهاية الايديولوجيا والأفكار السياسية الكبرى (قول فيه تسرّع وخفة معرفية)، وأمام الهرسلة المكثفة والممنهجة لتجربة التأسيس الديمقراطي/ الثوري بعد 14 جانفي من طرف خصوم الثورات من الداخل والخارج، وأمام أخطاء طفولية ارتكبها حالمو الأمس خلال التسع سنوات الماضية… أمام كلّ هذا صار الكثير يستسهل القول بأن كل الماضي تفاهة وهراء وسخف لم ينتج إلا عجزا… فظهر المبشرون بنهاية الأحزاب ونهاية النخب القديمة ونهاية كلّ شيء… وظهور “قيس سعيّد”.
هكذا بجرّة نزوة تدّعي المعرفة تمّ تقديم سعيّد على أنه “حالة وعي” متقدّم جدّا عن حالة العجز العامة التي شملت الجميع.
الجيل القديم أثخن في جسد الدكتاتورية بأظافره وبكثير من الطفولية العابثة أحيانا لكنه تطوّر وارتقى في وعيه إلى درجة أنه بلور مقاربات سياسية مهمة لمأسسة الحرية.
أن يأتي اليوم من كان خارج دورة الأفكار والسياسة، ممتطيا صهوة الشعار “الشعب يريد” لينسف تجريبا سياسيا شجاعا قارع التصحر السياسي والمعرفي زمن الدكتاتورية وأنتج أفكارا وتجارب نهلت من كل فلسفات الإنسانية الحديثة، ومبشرا بالتدمير العبثي لمكتسبات سياسية حقيقية كانت إلى زمن قريب حلما مستحيلا، فهو في نظري يخدم موضوعيا “الثورة المضادة” من حيث أراد أو لم يرد.
الذين صوّتوا لقيس سعيّد هم الوجه الآخر لمن صوّت للقروي.