نور الدين العويديدي
لم أكن أشعر بطول اليوم في العاصمة.. فالغرق في الشغل يجعل اليوم يمر سريعا كما تمر أعمارنا إلى زوال.. أما هنا في الريف فالنهار طويل طويل طويل.. أطول من ليالي الشتاء على من به أوجاع وأرق.
الهدوء الغامر يغري بالنوم.. أنام قليلا وأصحو.. جسمي ينبهني إلى أن كثرة النوم قد تعني في النهاية موجة من المرض ستفسد علي عطلة العيد القصيرة بين الأهل والاحباب.. والانترنت ضعيفة تجعل الاتصال بها مقلقا مملا..
لا خيار اذن وقد امتد الظل في “الفيراندا” سوى الاستلقاء في الهواء الطلق على “قياس” و”جراية”.. قرب الماجل وأحواض السلق وجها لوجه مع زيتونتي الساحرة المقابلة مباشرة للفيراندا.. حيث جلست مرات كثيرة في ليالي الصيف الجميلة أمام الشجرة المباركة المسربلة بغموض الليل.. تمدني بمشاعر غامضة وحنينا لشيء لا أدرك كنهه.
بينما يمتد الصمت ثقيلا داخل البيت.. المكان هنا مزخرف بالأصوات المتنوعة.. حفيف هواء يحرك شجر الزيتون الريان وشجيرات الرمان الخضراء المجللة بحمرة النوار استعدادا للخريف.. وأصوات عصافير منوعة يغلب عليها صوت “البزويش”.. ونهيق حمار يأتي متقطعا من بعيد.. ونباح كلاب بعيدة وأصوات أطفال يلعبون ويتعاركون.. وثغاء شاة جائعة أو فصلت عن وليدها يخمش أعماق الصدر ويستدعي بكاء يحوم حول المكان يوشك أن يقع عليه.
لوحات صوتية بديعة.. تكمل مشهدا بصريا بالغ البذاخة والغنى.. شجرات الزيتون الريانة وقد بدأ الحب الصغير يثقلها، يحركها الهواء فكأنها ارجوحة لا تعرف التوقف.. وما أجمل الزيتون الريان تكسوه خضرة بديعة تدغدغ قلب الفلاح القديم الذي ترك الريف ليغرق في صخب المدن الكالحة.
طير “التبيب” (الهدهد) بطربوشه الجميل ينقر الأرض المرورية تحت شجرة الزيتون يثير في نفسي ذكريات الطفولة البعيدة والشباب الأول والشبق الأول للأنثى وأساطير الريف العجيبة.. طيور البزويش الصغيرة تملأ المكان.. تتنافس وتتصارع وتتصايح ويركب بعضها بعضا.. وفراشات رقيقة لا تكف عن لعبة التوقف والطيران..
هجمت جحافل الصيف.. لكنها لم تتمكن بعد ولم يستتب لها الأمر. ثمة هواء ناعم لطيف رغم أننا لا نزال في قلب القيلولة.. قيلولة هادئة مزخرفة بالأصوات البديعة المتموجة على صهوة الريح حضورا وغيابا.. ومناظر حلوة رقيقة.. سلق وزيتون ورمان وشجر تين وصبار بدأت بعض ثماره تزهر فإذا هي صفراء فاقع لونها تسر الناظرين.
غدا العيد.. وفي هذا المكان سأشرب شايا وقهوة.. ومع العصر دلاعة باردة وقبلها شكشوكة حارة الأنفاس.
عيدكم مبارك سعيد.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.