حسن الصغير
دخلنا الفصل متسابقين في ذلك الصباح مستغلين انشغال مدرسنا بالحديث مع أحد زملائه وفجأة هدأ الصياح والتفت الجميع إلى شيء يشبه الجرة الصغيرة فوق طاولة المعلم لم نر مثلها من قبل وتملكنا استغراب شديد من سر وضعها هناك.
دخل المعلم ثم كتب على السبورة الخضراء القديمة بالطباشير الأحمر كلمة “الادخار” وطفق يسأل العقول الصغيرة عن معنى الكلمة.
لم يظفر المعلم بإجابة شافية فانبرى يشرح لنا معناها حتى فهمنا أن الكلمة تعني أن يحفظ الأنسان ما يزيد عن حاجته من المال ليستعمله عند الحاجة اليه.
ورغم اني فهمت المعنى جيدا لكنه ظل نظريا فقط في مخيلتي، فوالدي كان يتقاضى من عمله في الحضائر راتبا هو أقرب إلى المساعدة الاجتماعية ولا يكفينا للأكل والشرب واللباس وكم من مرة طلبت شراء كراس أو حذاء فيجيبني بأن لا مال لديه وعلي ان أنتظر حتى يفرجها الله. فكيف له إذن أن يدخر مالا لوقت الحاجة وهو أصلا لا يجد ما يفي بحاجته؟
وزاد المعلم من حيرتي عندما طلب منا أن نقوم بتجربة الادخار ونشتري حصالة نضع فيها نقودنا وفي آخر السنة نفتحها ونشتري بما تجمع فيها من المال شيئا مفيدا.
ورغم اني لا أملك أي مليم أعجبتني الفكرة وقررت خوض التجربة، وكنت بالطبع لا أستطيع شراء حصالة لأني لا أملك ثمنها أولا ولأنها لا تباع في سوقنا ثانيا، لذلك قررت صنعها بنفسي.
وفي يوم الأحد يوم العطلة الأسبوعية هداني فكري إلى صنع حصالة من علبتي معجون الطماطم فارغتين حصلت عليهما بعد لأي وأدخلتها في بعضهما البعض بحيث أصبحت علبة واحدة مغلقة من الجهتين ثم ثقبتها من أعلاها بالقدر الذي يسمح بإدخال القطع النقدية ثم وضعت حصالتي الجديدة في شباك المنزل وبقيت أنتظر النقود.
كنا يومها لا نعرف المصروف اليومي ولا نحصل عادة على قطعة نقدية إلا في مناسبات متباعدة عند زيارة ضيف ميسور أو عند بيع بيضة او اثنتين للحساب الخاص بعد مفاوضات عسيرة مع الوالدة.
بقيت حصالتي فارغة تنتظر النقود أسابيع طويلة حتى جاء الفرج وحصلت على خمسين مليما من أحد أقاربي الذي زارنا ورأى الحصالة، فوضع فيها القطعة.
لكني بقيت أسابيع طويلة أخرى أنتظر قطعة جديدة تؤنس وحدة الخمسين مليما لكن دون جدوى. فكنت أحيانا أتخيل حصالتي ممتلئة بالقطع النقدية وأعمد إلى هزها بشدة لكني لا أسمع إلا العزف المنفرد للخمسين مليما اليتيمة.
وفي غمرة اليأس جمعت عددا كبيرا من سدادات علب البيبسي وضربتها بالحجارة حتى أصبحت تشبه النقود وأدخلتها إلى الحصالة حتى صارت ثقيلة وعندها صرت أسمع شنشنة ضخمة عندما أهزها وأكتفي من لذة النقود بسماع شنشتها.
وبعد أشهر قارب العام الدراسي على النهاية ويبدو أن المعلم نسي قصة الحصالة وتجربة الادخار فعمدت إلى حصالتي وفتحتها وأخرجت الخمسين مليما من بين سدادات علب البيبسي والفانتا وركضت إلى الدكان واشتريت قطعة حلوى منهيا بذلك تجربة اقتصادية فاشلة وأشهرا من الانتظار اليائس.
ورغم فشل التجربة ومعاناتها كنت مقتنعا أن فكرة الادخار جميلة ونافعة لكنها لم تخلق لنا نحن الفقراء الذين نعيش فقط ليومنا ولا نحمل هم الغد مطلقا.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.