هل نحن أوصياء ؟
نور الدين الغيلوفي
1. كان من طريف الشاعر أولاد أحمد، بعد هروب بن علي، أن انتدب نفسه بنفسه “قيادة شعرية للثورة التونسيّة”، وجعل من اسمه رئيسا لمجلس قيادة الثورة.. وكان من مآثر الثورة أنّها مكّنتنا من جواز حرية لنكتب ما نرى في تلك القيادة.. ولقد كتبتُ فيه مقالا ردّا على مقال له، وقتها، جعلتُ له “سطو اللصوص على النصوص” عنوانا.
انتشر ذلك المقال حتّى ضاق به رئيس مجلس قيادة الثورة الشعرية (هكذا يكون التركيب). أبلغني بعض أصدقائه الأقربين أنّ المقال أزعجه، وقتها، وأخبرني بأنّه فكّر في مقاضاتي، رغم أنّ المقال لم تكن فيه إساءة إلى شخصية، ولكن لأنّه لم يحتمله. غير أنّ مساحة الحرية كانت أوسع من مشاعر ضاقت بمخالف.
كان أولاد أحمد قد جعل نفسه القيادة الشعرية للثورة التونسية، ولا أحد اعترض عليه. الحرية “واسعة وعريضة”.
2. بعد أن هرب بن علي التحق كثيرون بالمسار الناشئ، وقتها، واشتغل كثيرون، حتّى من بين الملتحقين به، معاولَ لضرب المبنى من أيامه الأولى.. وليجعلوا لهم حجّة فقد اخترعوا حيلة يُسمح لهم بمقتضاها بأن يضربوا بكلّ عنفهم ويكونوا تحت الحماية.. لقد اختزلوا المسار في حركة النهضة وحمّلوها الجمل بما حمل ليسهل عليهم عقر الجمل، حتّى عقروه.
ولم يهنأ لهم بالٌ إلّا بعد أن رأوا رئيس البرلمان يقف في عتمة الليل أمام بابه الموصد في وجهه، وقتها عاودهم فرحٌ كان غادرهم قبل عشر سنين. ولكنّ نومهم لم يعد إليهم إلّا بعد أن أودعوا الغنوشي السجن. لا أظنّه، في سجنه، يدعو عليهم ولكنّ أنفاسه السجينة تدعو عليهم، إذ لم يفعل بهم شرّا ولم يمسّهم بأذى ليحرموه من حريته ويحرموا أحفاده وأبناءه منه. ولكنّه الظلم أصاب حتّى الأنبياء.
ولهم مصير الظالمين.
3. بعد 25 جويلية وقفت قلّة قليلة تجاوزت ما كان بينها من تناقضات إلى جانب الحرية والديمقراطية.. وكان التقاء راشد الغنوشي وعز الدين الحزقي علامة على أنّ في البلاد فئة لا تزال ثابتة على مبادئها الجامعة، بعيدا عن الإقصاء والإلغاء.. ظلّت تلك الفئة قابضة على الجمر مستمسكة بغصن الحرية والديمقراطية تمنعه من التكسّر اجتنابا للسقوط. وقد كنّا من تلك الفئة التي اختارت أن تمسك بالشجرة وقد أجمع المستولون على المدينة على قطعها.
4. على الجهة المقابلة وقفت فئة أخرى استحكم بها عداؤها للفئة الأولى.. وقالوا قولا واحدا “المهم ارتحنا من الخوانجيّة.. الباقي مقدور عليه”. لم يلتفتوا إلى عز الدين الخزقي ولا إلى نجيب الشابيّ ولا إلى منصف المرزوقي، ولم تنقل عدستهم غير الغنّوشي يضرمون فيه نيران تشفّيهم ويصرّفون قيح ساديتهم.
الآن فهم هؤلاء أنّهم أخطؤوا التقدير ولم يحسنوا الاختيار، ورّبما أدركوا أنّ غرائزيتهم قد ذهبت بهم بعيدا، ورأوا بأمّ العين أنّ الخطر يداهمهم هم أنفسهم ما كانوا كائنات ناطقة.. أقول ربّما.. ولذلك رأوا، في لحظة يأس، أن يقولوا عبارة “أعتذر”. هم لا يعتذرون إلى الثورة ولا إلى جهة بعينها ولا أظنّهم في وارد تغيير ولائهم.. أحرى بهم أن يعتذروا إلى أنفسهم.
5. حين كتبنا فيهم تفنيدا وتسفيها لم ننصّب أنفسنا أوصياء على شيء. كنّا فقط نعبّر عن رأي. وقد جادت علينا الحداثة بهذا الفضاء اتّخذنا منه صحراء لتيهنا بعد أن أنكرتنا المدينة، فهل يضيق بنا بعض أصدقائنا لأنّنا رأينا أن ننأى بأنفسنا عن فئة ركبت مركبا ولمّا نبا بها مكانها منه قرّرت القفز منه؟
أليس من حقّنا أن نقول ما نرى؟
هل نكون قد مارسنا وصاية ما على أمر ما؟
رفقنا بنا، يا صحبنا.