تدوينات تونسية

دولة العبث

نور الدين الختروشي 

نقيض الأمل هو اللاّجدوى، هذا ما خطه البير كامو في احدى صفحات كتابه “أسطورة سيزيف”، ليكثف بين حروف وكلمات جملته المباشرة، معاني ودلالة ما سمي بفلسفة العبث.
العبثية أو العبث تيار أدبي وفكري أوروبي ولد على انقاض القتل والدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية مع خمسينات القرن الماضي.

لعل الناقد المسرحي الإنكليزي مارتن يسلين كان أول من اطلق تسمية “مسرح العبث” في كتابه الذي صدر له بنفس العنوان ناقدا للنصوص المسرحية لصمويل بيكيت، ويونسكو وغيرهم.
وقد وجدت العبثية في نصوص المسرح والأدب في النتشوية منبعا فلسفيا، لاستنبات المعنى واجتراحه في الحدود الطاردة للعقل وبديهياته وأقانيمه التقليدية كما افصح عنها تاريخ العقلانية الغربية.

ليلة 25 جويلية، استقبلها واُحتفى بها في “تونس الحيرة والعبث” بكل الأمل في أن تؤرخ لتدخل الدولة إنقاذا للمجتمع من عبثية فضاء السياسة والحكم.
مرت اليوم اكثر من ثلاثة اشهر، ليكتشف العالم وقبله التونسيون “رئيسهم” ينشط بهمة ونجاعة وفاعلية قصوى، لنقل حزمة العبث بكل عناوينها ومفرداتها التي عايشنا يومياتها طيلة عشرية ما بعد الثورة، إلى الحيز الرسمي وفضاء الدولة. فالانقلاب الجميل نجح في اشهره الثلاثة الأولى في تعميم العبث وإعادة توزيع منسوبه “بعدل عمري” على كل مفاصل القرار الرسمي في دولة الانقلاب المرح.

بدأت العبثية بصفاقة إعلان الرئيس ليلة الانقلاب بقراره تولى مهمة النيابة العمومية، وهو ما لم تسجل له سابقة في ذاكرة الانقلابات الحديثة في مشارق الأرض ومغاربها.
قرار الرئيس الذي اعلنه لوزير العدل في حكومته منذ يومين بعزمه إصدار مرسوم رئاسي لحل المجلس الأعلى للقضاء، وإعادة هيكلة مرفق العدالة وهندسته على هوى الرئيس، كان التجسيد العملي لتلك الجملة الصادمة التي قالها في خطاب 25 جويلية الشهير.

يخطأ من يتصور أن الرئيس يخبط خبط عشواء، ولا يعرف ما يريد من وراء ما يبدو من سذاجة في منطوق خطابه وقراراته وأداءه، فسعيد ومنذ دخوله قرطاج تصرف ضمن استراتيجية واضحة وخيط ناظم لكل ما كان يبدو للمراقبين انه تصرفات غريبة أولت في وقتها على أنها تعكس ضعف تأهله السياسي للقيام على مهمة رئاسة الجمهورية.

نتذكر الزيارات المتكررة للثكنات العسكرية، وخطبه المتكررة وتهديداته المتواترة أمام جنرالات الجيش بقرب اطلاق صواريخه المدمرة لحصون الخونة والفاسدين، ونستحضر ردود الأفعال الساخرة من تصرفاته وخطبه المدرسية، لكن تبين أن الرجل يعي ما يقول،، ويعرف ماذا يريد، ويتصرف ضمن استراتيجيا ناظمة لخطواته من التركيز على المؤسسة العسكرية ثم الأمنية، ثم تعطيل السير الطبيعي لأجهزة الدولة، مرورا بتعفين الوضع الصحي والاقتصادي. كان الرجل يسير بخطى ثابتة نحو الاستيلاء على السلطة والانقلاب الصلب على المنظومة والنظام.

قيس سعيد قوة هدم ممنهج ولكن ما صدر منه من قرارات منذ انقلابه لم يفصح على قدرة واضحة على البناء بل تبدو كل خطواته وسياساته وقراراته بدون بوصلة وبدون أفق وبدون معنى باستثناء معنى استصدار العبث من المجتمع المدني إلى حيز الدولة وتلك أم مصائب الانقلاب.

العبثية في الفكر الأوروبي كانت رد فعل إبداعي على كم القتل والدمار الذي اقترفته وحشية الحرب العالمية الثانية، وقبلها كانت النتشوية في بداية القرن الفارط تؤسس للعدمية كمآل طبيعي لفوائض العقلانية الصلبة في المجال الغربي. وكانت العدمية ومن بعدها العبثية بحثا بالسلب عن المعنى والدلالة في أفق تحرري يبحث عن تعميق معاني الأنسنة والحداثة والتصالح مع عناصر الوجود والموجود. وتبدو عبثية المشهد الوطني اليوم بدون دالة ولا دلالة، سوى دالة الارتكاس إلى زمن دولة القمع العاري. أي ببساطة دالة الجنون واغتيال العقل ومن قبله ومن بعده إغتيال حلم عام بالحرية والتحرر من نوازل القمع الرمزي والمادي الذي جثم على صدورنا قرونا، ويبدو أن طريق التحرر من مبانيه ومعانيه مازال طويلا ومازال يطالبنا بدفع الكلفة.. كلفة التاريخ.

ألم يعلمنا كامو ببساطة عميقة أن اللاجدوى نقيض الأمل… وإن للانقلاب جدواه قد تهدينا أملا..

جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock