نور الدين الختروشي
حرية الضمير والتفكير والتعبير والتنظم والتجمع كانت عناوين ومدار نضال الحركة الديمقراطية في العهدين البورقيبي والنوفمبري، وكان النضال الديمقراطي يحقق القليل من المكاسب كلما اسند بحراك اجتماعي وازن. ولعلنا نتذكر أن تجربة الانفتاح في بداية الثمانينات كانت من تداعيات انتفاضة 1978 التي قادها اتحاد عاشور رحمه الله..
بقي النضال الديمقراطي محصورا في مجتمع النخبة معزولا عن عمقه الأهلي، ولم يتحول عنوان الحرية إلى محرك ومهماز جماهيري جامع طيلة تجربة دولة الاستقلال. ولم تكن الثورة المباركة استثناء بل عمقت القاعدة التي تقول ان الشارع يتحرك تحت ضغط المسألة الاجتماعية بداية ونهاية، وان مطلوب الحرية مكملا في دوافع حركته وليس محركا او لم يكن المحرك الأول.
هذا التباين بين هاجس النخبة ومطلوب الجمهور تحكم في المسار السياسي الذي أنتجته الثورة، فقد تمزق عقد الالتحام بين السياسي والثوري بسرعة تجاوزت قدرة من حاول أن ينظم خبط التوازن بين المسار الثوري ومخرجاته السياسية. فتوزعت القوى المحسوبة على الثورة بين النواح على ضياع الثورة، وبين شقاء البحث عن إنجاز الممكن بدالة الحيلة والمناورة السياسية لاستيعاب القديم في أفق الجديد..
غياب أو “تغييب” دالّة الكرامة” أو العدالة في المسار التأسيسي الذي اعقب الثورة، يفسر انسحاب الجمهور وسرعة تخليه عن مجتمع النخبة في تقرير مصير العملية السياسية، والتي كان مسار تطورها بالنتيجة والمآل هو نفسه مسار استفراغها من المحتوى الاجتماعي المركزي للثورة ذاتها، فوجدت النخب نفسها في مسار دسترة وبناء شكلاني لنصاب ديمقراطي يعكس حاجة مجتمع النخبة للحرية بأكثر ما يعكس طموح الشارع في العدالة.
تقديري أن ضعف حضور السؤال الاجتماعي لا يفسره فقط ضعف حضور عنوان العدالة في الثقافة السياسية التي تولت أمر ثورتنا من دون أن تصنعها، بل يفسره أيضا وخاصة وبأكثر عمق العامل الكوني المتصل بالتحول العميق في استكناه وتمثل مبدأ العدالة الاجتماعية، خاصة مع سقوط الرهان على الوظيفة الاجتماعية للدولة بعد تهاوي معمودية القطب الاشتراكي الذي تأسس على شرعية دالة العدالة في مقابل دالة الحرية التي أسست لشرعية القطب الرأسمالي. فقد ودع العالم اخر فصول الحرب الباردة بين المعسكرين على إعلان خروج الدولة من السوق، والتبشير بموت سرديات الرهان على الاقتصاد الموجه والوظيفة التأميمية للدولة التي اغتالت معنى العدالة بنضحيتها الكارثية بمبدأ الحرية، كما أفصحت تجربتها السوفياتية ومنظومتها الاشتراكية.
أعلن العالم انتصار اقتصاد السوق وأَُطردت الدولة بإهانة من الفضاء الإنتاجي لحساب رأسمالية مالية متجددة ومعممة تبشر بالرفاه للجميع، على قاعدة مبدأ المساواة في فرص امتلاك الثروة، مع دور تعديلي بسيط وهامشي للدولة في ضمان الأدنى من مقومات الاستقرار الاجتماعي، وتجنب انفجاراته الممكنة.
سقط النموذج الاشتراكي، وبرزت على أنقاضه الديمقراطية الاجتماعية، كمحاولة جديدة لضخ النسق المافوق الليبرالي بالأقصى من منسوب العدالة، بتوفير الأدنى من شروط العيش الكريم كالسكن والصحة والتعليم إنقاذا لما تبقى من دور تدخلي للدولة.
بقدر ما نجح زمن ما بعد الحداثة في التحكم في ومنزع الدولة في تأميم الفضاء العام، بقدر ما استسلم لمنزع فاعل السوق والإمبراطوريات المالية والشركات المتعددة الجنسيات للتحكم في مصير مجتمعات ما بعد العولمة وثورة التواصل. فشهدنا بداية التفسخ والتجويف المنهجي لأقانيم المواطنة لصالح مفهوم المستهلك تحت عنوان العولمة، وولادة المواطن الكوني، والذي ليس سوى تعبيرا بالنهاية عن عنف وتسارع مسار تفكك وتحلل فلسفة العقد الاجتماعي، حيث مصير العالم يخرج عن إرادة الفاعل السياسي ليرتهن لإرادة فاعل البورصة..
كان لهذا العامل الكوني اثره الحاسم والمسكوت عنه في سرعة انخراط مجتمع النخبة في تونس ما بعد الثورة في إنجاز المطلوب الليبرالي من الثورة، وترددها العاجز في الاستجابة لواجب العدالة.
كان منتظرا من اليسار التونسي خاصة أن يضخ هذا التوجه الليبرالي الغلاب بالقليل أو الكثير من المحتوى الاجتماعي، ولكن يبدو أن يسارنا لم يكن له الوعي، ولا الرغبة، ولا الإرادة، ولا القدرة على تعديل البوصلة، وسقط بسرعة مخجلة في توظيف النضال الاجتماعي على قاعدة التناقض الثقافوي الأيديولوجي مع الإسلاميين أو “الحكام الجدد” لتونس ما بعد الثورة، وتحالف من اجل حربه المقدسة ضد الإسلاميين مع مافيا السوق ومن يمثل بارونات النظام القديم ومع اكثر الأنظمة “كمبرادورية” وانغماسا في مجاري الرأسمالية المالية المتوحشة في مجالنا العربي من أجل تصفية حسابه مع عدوه الظلامي. نسيان يسارنا لرهانه على السؤال الاجتماعي تزامن مع ضعف انحيازه للديمقراطية كما سجلت عليه العهدة التأسيسية بعد الثورة، فرمته العملية السياسية بقسوة لا خارج السياق السياسي، بل خارج السياق التاريخي لتونس الجديدة. وقد كانت نتائج انتخابات 2019 إعلانا مؤلما لموت اليسار التونسي.
نتمنى ليسارنا فتح ورشات تقييم لتغيير استراتجياته، وإنقاذ نفسه من نهاية بائسة لا نتمناها لمكون تعديلي وازن للخارطة السياسية، التي لن تجد استقرارها واستواءها على سوقها وتوازنها من دون ملء الفراغ الذي يتسع في كل يوم أكثر على يسارها..
تقديري ان المدخل الاستراتيجي لإعادة البلاد الى سكة الإنتاج والتقدم يمر عبر استعادة السؤال الاجتماعي على قاعدة تلازم الحرية والعدالة.
الدولة عندما تخرج من السوق تحكم أقل، هنا مفتاح استعادة عنوان العدالة، وهنا الصداع الذي يستدعي حاسة التفكير والإبداع للاشتغال عليه في ورشات حوار جدي ومسؤول ومفتوح خارج الخرائط الأيديولوجية التقليدية، وعلى أساس مشروع وطني لا نطمح الان بأن يكون جامعا ولكن نطمع على الأقل أن يصالح الجمهور مع الأمل، وأن يصالح النخبة مع الطموح.
في تونس الجديدة أرى أمل الجمهور في الكرامة يضعف في كل يوم أكثر، وأرى طموح الحرية النخبوي يهدده مسار التجويف العفوي من محتواه الاجتماعي العميق، وتوشك أن تتبخر معانيه وحواملها التاريخية في ديمقراطية شكلانية تدفعنا ببطء ولكن بإصرار للعودة الى مربع الاختيار بين الامن والاستبداد او الحرية والفوضى…
اقدر وأتمنى أن أخطأ أننا نسير في أفق مجهول إدارة فوضى “فوائض الحرية” في ظل مرحلة بينية رخوة أساسها المناورة السياسية للحفاظ على توافق هش مع القديم والذي بالنهاية ليس سوى ما تبقى من أعداء الحرية وخصوم العدالة…