مقالات

حكومة الجملي: في هامش الثورة والنظام والدولة

نور الدين الختروشي

نحن على أبواب شتاء ساخن.. شتاء أجندة الدولة الصلبة.. والعيون تكاد لا تغادر قصر الضيافة
لنرجع لبدايات القصة علنا نمسك بمسار النهايات..
الحالة التونسية بقدر ما تبدو بسيطة في هيكلها العام ،تبرز مركبة حد التعقيد. فغياب الدولة العميقة ونقصد بها جماعة او جماعات الضغط َالمتحكمة في مفاصل القرار الرسمي، والقادرة متى شاءت تغيير نمط الحكم ، يقابله حضور دولة صلبة موجودة في مفاصل السلطة الرمزية وَالسياسية والمادية وموزعة بين الحيزين السياسي والمدني والسوق والخارج وتملك تحريك مفاعيل تعطيل المسار والتشويش عليه وارباك. هذه الدولة الصلبة بمخفياتها وما ظهر منها لم تنجح تونس الجديدة لا في احتوائها، ولا في القضاء عليها، وما دمنا في هذا الوضع الرمادي أو البيني، فإن استراتيجية البحث عن التوافقات ضمن رؤية واضحة هي الأنسب تونسيا للحفاظ على الأدنى من اجتماعنا السياسي.

تنشط أذرعة الدولة العميقة مع بدايات كل شتاء وتهدد بإسقاط السقف على الجميع، وتتداخل أجندتها وتتقاطع مع كل الخاسرين من الثورة اولا والديمقراطية ثانيا، ومع نهاية الشتاء تكمن عميقا في جحورها تحرك بيادقها بهدوء انتظارا لفرصة جديدة تجدد فيها رغبتها بالردة على زمن الحرية.
تحمس الرأي العام ورموز سياسية عديدة وأحزاب وازنة من ضمنها النهضة لما تأولوه من نتائج الانتخابات الأخيرة. وفي مقدمة الرسائل التي ركز عليها خطاب ما بعد الانتخابات هو العودة إلى ما يسمى بالسياق الثوري، وتخمر الجميع على معزوفة “حالة وعي” و”الشعب يريد” واشتغلت منصات الوعي الزائف لتسوق لوهم الثورة الثانية واستعادة رومانسيات اللحظة التدشينية ذات يوم من جانفي 2011.
نسي او تناسى الجميع حقيقة رسالة الصندوق الاساسية وهي الحسم في النخب العابثة واليأس منها، وعومت رسالة الناخب بشطحات ركيكة على معزوفة الثورة الجديدة.
يوميات تشكيل “حكومة الثورة الثانية” تفصح على حقيقة عودة “ذلك” الوعي المنعكس على مرآة الحقيقة المرة حقيقة انتهازية وصلافة وعبثية النخب التي وكلتها الإرادة الشعبية لتولي العهدة الجديدة.
العبث لا يبرز عند حد رفض “الثوريين جدا” المشاركة في حكومة ائتلاف وطني فهذا واضح وبارز لكل ذي بصر وبصيرة بل ويبرز أكثر في عبث حركة النهضة التي كانت الأكثر رصانة وتعقلا بعد الثورة وذلك بترشيحها لشخصية بدون طعم ولا لون ولا تاريخ ولا تجربة ولا كاريزما ولا معنى بالنهاية.
الجملي ومع احترامنا لشخصه هو اختيار الحيرة واختيار المجهول واختيار العبث الذي لا يفسر الا بفقدان آخر معاقل العقل (مونبليزير) للبوصلة. فالنهضة المعطوبة بوزن انتخابي أقل من المتوسط تصر على هذه المرة على حماقة التمسك الشكلاني المفرغ من المعنى والدلالة بالنص الدستوري.
معادلة السلطة الصلبة لم تغيرها الانتخابات وموازين القوة المتحكمة بمآلات الحالة التونسية لم تتزحزح. وتغيير منهج َفلسفة التعامل مع المرحلة البينية من التوافق إلى الثورة ليست سوى قفزا متنطعا نحو المجهول في ظل أوضاع دولية متحولة وسائبة وفي ظل وضع داخلي هش ووضع اقتصادي على حافة الإفلاس.

ماذا بقي في هذا الركام…؟
بقيت الدولة.. وتلك قصة أخرى

علاقة التونسي بالدولة علاقة عميقة وضاربة في القدم فهو ومنذ ما قبل الميلاد لم يعش يوما من دون دولة. تتسع رقعة الدولة وتضيق وتتغير آليات تحكمها وسلطتها من حقبة لأخرى ولكنها موجودة… ودائما موجودة.
تجددت المنظومة القديمة في انتخابات 2014 على خطاب الانحياز للدولة كحاوية للأمن والاستقرار في وضع ما بعد ثوري هائج ومتموج، نصفه حرية ونصفه فوضى، فتسلل القديم بصراط الصندوق إلى موقع قيادة المصير العام.
صادمة، ومزعجه، وحائرة كانت عودة القديم من شباك الانتصار للدولة. تلك الدولة المنهكة من تاريخ تماهت فيها مع السلطة والأنظمة الاستبدادية المتتالية والمتناسلة عن بعضها منذ سحيق القدم. حتى بات من الصعب اكتشاف خيط الفصل الرقيق بين النظام والدولة.
يسجل تاريخ ثورة 14/17 أن الثورة في تونس أسقطت النظام ولم تسقط الدولة. وعند هذه النقطة من سطر الثورة نفهم لماذا لم يفتح مسار إسقاط النظام على مسار تفسيخ الدولة، مثلما كان حال بقية الثورات العربية التي تأثرت بالثورة التونسية، فعادت بسرعة إلى تاريخ ما قبل الدولة، وانخرطت في حلكة ظلام حرب الكل ضد الكل.
رهان التونسيين على إسقاط النظام والحفاظ على الدولة كان استثناءا في تاريخ الثورات مازال من المبكر الحكم على مشروعيته ولكن من الممكن القول انه قلص من كلفة الدم واختصر طريق الثورة نحو الاستقرار في أفق العقل.
لعله من المبكر تفسير حرص التونسيين على الدولة بخوفهم الغريزي من الفتنة، أم بعمق البطانة النفسية والوعي الذاتي بضرورة الدولة.
تونس السياسة قبل الانتخابات الأخيرة عززت القناعة بضرورة الحفاظ على الدولة باجتراحها لآلية التوافق مع القديم كرافعة أساسية لتجذير معاني الثورة، دون الحرص على هاجسها في حسم المعركة مع القديم.
الأغلبية من التونسيين إذا اعتمدنا مؤشر نتائج الأحزاب في الانتخابات كان وعيهم بالحاجة للحرية يعادل ولا يفوق وعيهم بالحاجة للأمن والنظام وهو ما سهل الإقناع بأولوية الحفاظ علي الدولة. فلم تشهد أيام الثورة الأولى تعطلا يذكر للخدمات الأساسية للدولة وواصل المرفق العام القيام بمهامه الحيوية رغم حالة الانفلات الأمني في تلك الليالي العصيبة، والتي تطوعت فيها تونس العميقة لحماية الأفراد والممتلكات ليلا بالتنسيق أو بدونه مع ما تبقى من الدولة. وهو ما أنقذ التجربة من الانحراف إلى أخاديد التحارب والفوضى العامة.

عندما تولت تونس الجديدة الحكم اكتشفت ان الدولة دولتان. دولة السطح التي تبدو منسجمة مع الصورة الدستورية للدولة الحديثة، ودولة خفية مغرقة في التستر والتخفي، وموزعة بقصد موزون، أو بعفوية سائبة في مفاصل صنع القرار الرسمي.
تعاملت الترويكا في العهدة التأسيسية مع لغز الدولة الصلبة بعنوان الإصلاح الإداري، فخصصت له وزارة سرعان ما استقال وزيرها الثوري بمبرر عدم وجود إرادة للإصلاح، وكان الأنسب أن يقول إن التحدي أكبر منه ومن الحكومة فليس أشرس وأعمق من معارك الدولة ضد نفسها.
تعددت وتوسعت مساحات الوعي بوجود جماعة ضغط نافذة ومتحكمة بأذرعتها المالية والسياسية والإعلامية والجمعوية والجهوية في مفاصل الإدارة وأجهزة الدولة، واستنجد قاموس التداول السياسي بمقولة الدولة العميقة للتعبير عن الظاهرة.
مفهوم الدولة العميقة مازال سائلا وغير محدد بصرامة المعيارية العلمية مما سهل تسلله إلى قاموس التداول العام ليعكس في تقديري كسلا ذهنيا في تدقيق المفهوم وحصره في منطقة تعقل تحيل على معانيه.

الدولة العميقة في تقديري هي جهاز خفي، بيد عصبة منسجمة الرؤية والمصالح، تتحكم في مجتمع الحكم وتحدد نمطه، بما يحافظ على مواقعها ومصالحها. ومثالها التاريخي المشهود والبارز في المنطقة العربية تعبر عنه الحالة المصرية والجزائرية ففي البلدين شهدنا وشهد العالم كيف تتحكم الدولة العميقة في العملية السياسية، وقدرتها المفزعة على حسم الصراع حول السلطة لصالحها دون تردد، ومهما كانت الكلفة.
فمن يحكم في حالة الدولة العميقة لا يملك السلطة، بل هو مجرد واجهة لها تغيرها متى استنفذت وظيفتها في حفظ مواقع ومصالح بارونات السلطة الحقيقيين.
ما أثبتته سنوات ما بعد الثورة في تونس هو أساسا وتحديدا غياب وعدم وجود الدولة العميقة. فدولة ما بعد الاستقلال لم تسطر مسافة الفصل بين من يحكم ومن بيده السلطة. فبورقيبة كان يحكم، وَيمسك بمفاصل الدولة، ولم يكن حاكما بالنيابة، وكذلك الأمر في العهد النوفمبري، بل ويدعي كاتب السطور أن بن علي سقط لأن نظامه شهد ولادة الدولة الصلبة من دون أن تتطور لتتحول الى دولة عميقة.

نعرف الدولة الصلبة على أنها مجموعات ضغط متناثرة على جزر الدولة كجيوب وأذرعة تقوى أحيانا وتبرز، وتضعف في أخرى وتتوارى، وغايتها دائما التأثير في القرار الرسمي على عكس الدولة العميقة التي تصنع القرار الرسمي. وما يميز الدولة الصلبة عن الدولة العميقة هي قدرتها على التعايش مع نماذج الأنظمة السياسية المختلفة فمثلما تعشش في أنظمة الاستبداد تخترق بنعومة الأنظمة الديمقراطية في شكل لوبيات صنع قرار.
مشكلة الدولة الصلبة مع الديمقراطية في عنوان الشفافية هذا في حين أن عقدة الدولة العميقة في مبدأ التداول على السلطة عبر صندوق الانتخاب، فمشكلتها ليست مع مبدأ من مبادئ الديمقراطية، بل مع وجودها من حيث المبدأ.
المسار السياسي المتعثر منذ العهدة التأسيسية كشف بقسوة مدى نفوذ جيوب الدولة الصلبة، وقدرتها الفائقة على مسايرة الموجود السياسي ثم اختراقه وتجديد حاجتها للانحراف به نحو نظام أقل شفافية من مطلوب الديمقراطية.
خلاصتي ليس مهما ان ينجح الجملي في تشكيل حكومته او يفشل، المهم ان لا تعصف حالة العبث والحيرة والانتظارية بأخر الحصون: الدولة بسطحها المؤسساتي وعمقها البنوي السوسيولوجي الخفي.. وفي ذلك العمق ستتحد مآلات الحالة التونسية في الأشهر القادمة.

الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock