مقالات

العقوبة

حسن الصغير

لا ادري لماذا امتدت يدي إليها ووضعتها في جيبي؟ فقد كنت اعرف جيدا ان السرقة حرام وأن السارق منبوذ مكروه.
كنا يومها صبية نلعب في منزل عمي في إحدى المناسبات العائلية وأظنها على الأرجح عيد الفطر، وعندما خرج عمي ليتوضأ لصلاة العصر بقيت وحيدا قرب مكان جلوسه حيث ترك أغراضه الغليون وكيس التبغ المخلوط بالعرعار ذا الرائحة النفاذة والشاشية الحمراء وكيس النقود وزجاجة العطر الصغيرة بحجم الاصبع التي تسمى “سبولة”.
ومن دون جميع الأغراض امتدت يدي للزجاجة وفتحتها ثم شممتها وأعدت إغلاقها بالغطاء الأحمر الصغير الذي تتدلى منه سلسة بلون الذهب ثم وضعتها في جيبي وخرجت وواصلت لعبي مع الصبية.

وفي تلك الفترة أي أواخر السبعينات لم يكن العطر معروفا في القرية تقريبا، فقد كانت النساء تضعن عقد ‘السخاب” المصنوع محليا والذي تفوح منه رائحة العنبر طول الوقت، أما الرجال فيحمل بعضهم عطر السبولة وبعضهم يتعطر فقط بعبق الأرض وشذى النباتات الجبلية أما نحن الأطفال فلا علاقة لنا بالعطر مطلقا.
وفي المساء حين عدت إلى البيت اطلعت إخوتي على كنزي الثمين وأعلمتهم أني وجدتها في الطريق ويبدو أنها ضاعت من أحد السابلة.
ومن سوء حظي أن أختي المشاكسة صاحت بمجرد أن رأتها: هذه زجاجة عمي بغطائها الأحمر رأيتها عند مجلسه مع أغراضه، التفت إلي الجميع وحاولت جاهدا تفنيد روايتها بأن الغطاء الأحمر ليس دليلا متحججا بأني رأيت يوم السوق الأسبوعية بائع السبولة ولديه زجاجات كثيرة غطاؤها أحمر لكن يبدو أني لست بارعا في الكذب وبتضييق الخناق علي اعترفت بسهولة أنها فعلا زجاجة عمي أخذتها في غفلة منه.
تم حجز المسروق وقالت والدتي إن المسألة الآن بيد والدي الذي سيقرر مصيري بعد هذه الجناية غير المسبوقة، وهو ما أثار رعبي فقد جرت العادة أن تفصل أمي في الجنح البسيطة لكن الجنايات الكبيرة تترك لنظر والدي.

بقيت أنتظر قدوم والدي رحمه الله وأنا أتخيل شكل العقوبة وفي الأخير استقر رأيي على أنها ستكون صفعتين أو ثلاثة ثم يصفني بالسارق وينهرني بشدة لكن ذلك كان حلما بعيد المنال.
وفي ذلك المساء تعمدت تأخير أوبة القطيع إلى ما بعد زوال الشفق الأحمر من وراء جبال القرية الغربية وبمجرد وصولي ناداني والدي ثم سألني سؤالا واحدا فقط هل سرقت زجاجة عطر عمك؟ أجبت بنعم وأنا أتحفز لتلقي الصفعة لكنه تأملني برهة من الزمن ثم قال غدا سأقول لك.
بت تلك الليلة أتقلب بين الخوف والأمل الخوف من شكل العقوبة التي تأجلت للصباح والأمل في أن تكون مخففة لأن غضب والدي سيكون قد زال في الصباح.
ومن الغد أمرني والدي أن أحمل زجاجة العطر وآتي معه ثم ركب حماره وتوجه لسوق القرية على بعد 7 كيلومترات وأمرني بالسير خلفه وتعمد ألا يردفني وراءه كما جرت العادة.
كان الحمار يسير بسرعة عجزت عن مجاراتها فصرت أهرول حينا وأركض حينا حتى تصبب العرق مني ووالدي غير مكترث تماما وفي كل مرة يلتفت ويجدني بعيدا ينهرني بعنف ويصيح “أسرع يا سارق”.
وبعد لأي بلغنا القرية وحين اقتربنا من مدخلها الشمالي حيث تقع منازل جدي وأعمامي “دوار الصغايرية” أوقف حماره ثم قال لي اذهب إلى عمك وأعد له الزجاجة وقل له إنك سرقتها وإن شاء سامحك أو ذبحك فهو حر الأمر بينك وبينه ثم لكز حماره ومضى لا يلوي على شيء.

كان عمي يجلس تحت شجرة الكالاتوس الكبيرة أمام منزله فتقدمت منه ببطء ولا أدري إن كنت قد ألقيت عليه تحية الصباح أم لا ثم مددت له الزجاجة وأردت أن أقول له إني سرقتها لكن خنقتني العبرة وخرج الكلام همهمات غير مفهومة.
كان عمي رجلا شديدا حد العصبية وكنا نخافه جميعا ونتجنب إثارة غضبه لذلك أيقنت بالهلاك وأنا أقترب منه.
ويبدو أن عمي فهم الحكاية فتناول الزجاجة ووضعها قرب الغليون، ثم نظر إلي ولم يقل غير جملة واحدة السرقة حرام فلا تسرق مرة أخرى ثم تناول كيس نقوده وأعطاني مائة مليم وددت أن أرفضها لولا خوفي من غضبه.
أخذت الـ 100 مليم وذهبت وكان من الممكن أن أكون أسعد طفل بهذا المبلغ الكبير، وكان من الممكن أن أطير للسوق وأشتري ما لذ وطاب من الحلقوم والبسكويت لكن مرارة الموقف جعلتني أعود للبيت بدل السوق وفي الطريق فكرت طويلا حتى استقر رأيي على أني لست أهلا لهذه المنحة، فقد أعطانيها عمي ليس حبا في ابن أخيه ولكن ليمنع يدي عن السرقة مجددا، وفي الطريق عرجت على عين الماء ودون تردد رميت المائة مليم إلى قعر البئر ثم واصلت طريقي والأسى يغمر قلبي!!!

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock