مقالات

قراءة في احتجاجات لبنان

عماد محنان

نسق الاحتجاجات الحاليّة في لبنان سيتصاعد لا محالة وإن تقطّع نزولا عند بعض المقتضيات والمتغيّرات.

1. سياق الحراك اللّبناني
إنّ الحراك الحاليّ الجاري في لبنان انعطافة عظيمة في تاريخنا المعاصر، وسيكون فاتحة تغيير لا نقدر في الحال على تبيّن مآلاتها أو استشراف غاياتها. وإنّ فهم القائمين على الشّأن في لبنان قاصر جدّا عن إدراك طبيعة ما يجري وإن كانت الاستفادة من تجارب تونس ومصر والجزائر بيّنة في خطابات السياسيين وخصوصا رئيس حكومة لبنان. ولكنّ هذا اللّين لن يكون مدعاة إلى التّراجع أو الانكفاء. هو لا يختلف في نتيجته كما لو كان خطاب زجر وتهديد كالذي أطلقه رئيس تونس عند قيام احتجاجات سنة 2010، والفارق الوحيد هو أنّ لغة التّفهّم ولين الخطاب من ضمانات سلميّة الحراك. ولكن لا يؤمّل منه إطلاقا إنهاء الحراك الجماهيري ولا حتّى تأجيله.
ولا شكّ أنّ مكبوتات الجماهير كانت مؤذنة بالانفجار منذ زمن بعيد. وكان معلوما للجميع أن الزّلزال الذي ضرب في تونس سيشقّ طريقه إلى الشّرق العربي ولو بعد حين. وهنا، يُلاحظ أنّ لبنان ليس ببعيدا عن تونس في نمط التفكير ودرجة الوعي والانفتاح ولاسيّما في ليبيراليّة التّفكير، وذلك رغم فارق الطّائفيّة بين البلدين. ولئن كان بديهيّا أنّ واجهة الاحتجاجات المعلنة اجتماعيّة اقتصاديّة، غير أنّها في العمق ثورة قيميّة رمزيّة لن توقفها الوعود الاقتصاديّة والمسكّنات الخطابيّة، فقد سقطت هذه الأدوات.

2. طبيعة الحراك
تبدو احتجاجات لبنان، مثلها مثل احتجاجات تونس 2010 ذات صبغة اجتماعيّة اقتصاديّة. وهذا أمر بديهي. غير أنّ عمق القضيّة قيمي ورمزي. فالطّابع الاحتفالي وطبيعة الشعارات تكشف عن مضامين أخرى رمزيّة وأخلاقيّة. علينا أن نتذكّر أنّ مجتمعاتنا مقهورة داخليّا تعاني من كسر الإرادة والإحباط إلى جانب الهزائم التاريخيّة مع العدوّ الخارجي. ومنذ النكبة ثمّ هزيمة 67 والحروب الأمريكية على العراق والاعتداءات الصهيونية المتكرّرة تراكم الشّعور بالقهر وترسّخت ثقافة الهزيمة على مرّ الأجيال. أضف إلى ذلك ارتهان القرار الوطني في ظلّ تنامي قوى إقليمية ذات أطماع واضحة في المنطقة العربيّة. وقد برزت لدى الجيل الحالي بسبب الثورة التكنولوجيّة والانتفاضات الإقليمية نزعة إلى الثورات على الدّاخل. ولذلك ظهرت سلوكات وخطابات طهوريّة أخلاقيّة تهدف إلى تغيير منظومة القيم السائدة التي خلّفها الاستعمار والهزائم والحروب الأهليّة كالنفاق الاجتماعي والانتهازيّة والفساد المالي والإداري والسياسي. وهذا ما يجعلنا مقتنعين بأنّ محاولة الالتفاف على الاحتجاجات بالوعود الاقتصاديّة حتّى ولو كانت صادقة بل حقيقيّة ناجزة لن تحلّ القضيّة لأنّ العامل الاقتصادي ليس إلاّ سطح المشكلة وجزءا بسيطا منها.

3. منهجيّات الحراك الجماهيري في لبنان
إنّه عبارة عن حوار بالشعارات. لا نعرف على وجه الدّقّة في تحليل الخطاب كيف تولد الشّعارات الجماهيريّة. ولكنّه يبقى واضحا أنّ شعارات الحراك اللبناني ستكون شعارات تنحو إلى التّكامل والتّوحّد ومحو الفوارق.
هنالك تغييرات مؤكّدة ستبرز في خلال هذه المرحلة:

• غياب القيادات من الثّوابت في انتفاضات الرّبيع العربي، وهذا خيار عفوي ولكنّه من مقوّمات المنهج الثّوري الحديث. وقد يرجع ذلك إلى انعدام الضرورة لظهور القيادات والرّؤوس بسبب انكفاء دورها الاتّصالي في واقع يتسلّح فيه الشباب بوسائل التّواصل الاجتماعي. نُذكّر هنا بأنّ القادح كان تواصليّا (ضريبة الواتس آب). لقد بدا الأمر وكأنّه انقلاب على الثّورة بضرب أهمّ أدواتها قبل اندلاعها، فكان ذلك بمثابة إشارة إطلاق. ولكنّ غياب القيادات لا يعني غياب الرّموز. فستظهر رموز شبابيّة في السّاحات والشوارع ووسائل الإعلام وشبكات التّواصل بعضها معدّ سلفا وبعضها وليد السّياق. من هؤلاء الرّموز ستستهلك الثّورة جزءا خلال المراحل الأولى وتحتفظ بالأنقى قيميّا للمراحل المستقبليّة أعني مراحل تصفية التركة السياسيّة وإعادة بناء النّظام.

• ستلتحق شخصيّات وجماعات واسعة من الفئات غير الشبابيّة للإسناد وإضفاء مزيد من الشّرعيّة على الحراك الشّبابي مع بقاء المبادرة بيد الشّباب رغم طبيعة المجتمع “الأبويّة” التي تحتفظ للكبار بمكانة رمزيّة رفيعة. وأهميّة هذا العامل تكمن في أنّه سيؤدّي إلى انسلاخات في الأحزاب والمؤسّسات الشرعية والأهليّة ذات الطّابع الخيري والطّائفي والطّبقي. فمخزون هذه المؤسّسات من الكهول بالأساس. وسيجري في داخل المؤسّسات جدل عميق وفرز على قاعدة موالاة الحراك أو معارضته. وهذا ما يُنصح اللبنانيّون بدراسته بعمق وأناة.

• تحرّك الشباب والجاليات اللّبنانيّة في الخارج وضغطها بالوسائل المختلفة لدفع الأمور إلى التّغيير، وخصوصا إذا عرف الحراك مواجهات أو أحداث عنف. وهذا العامل سيقدّم إلى الحراك دعما معنويّا، وقد يكون لوجستيا ماديّا. ومن أبرز آثاره أنّه سيكشف مدى ثراء لبنان بالعامل البشري عند ظهور بعض الشخصيّات اللّبنانيّة الوازنة المساندة للثورة والمتمركزة في المؤسسات العلميّة والسياسيّة والماليّة في المهاجر. وأثر ذلك أن يكشف فقر النّخب اللّبنانيّة الداخليّة المعرفي والقيمي. وقد لا يقتصر التّأثير على أوروبا والولايات المتحدة بل قد يصل إلى أمريكا اللاتينيّة.

4. استشراف تداعيات الحراك الجماهيري
بعكس ما قد يظهر للملاحظ غير الخبير بموقع لبنان الجيوسياسي وتركيبته وتاريخه القريب، فإنّ حجم الحراك الجماهيري الحالي لن يتجاوز حجم لبنان الجغرافي والدّيمغرافي وأنه سيتعثّر في تناقضات البلد الدّاخليّة وأبرزها الطّائفيّة، يبدو لي أنّه من الواجب النّظر إليه من جهة جريانه في بلد يقع بين بلد محتلّ وآخر تمزّقه حرب عالميّة في نسخة مصغّرة.
يجب أن يكون هنالك يقين بأنّه من غير السّليم الوثوق في القرارات الحكوميّة مهما بدا أنّها صادقة. ففهم الطّبقة الحاكمة لمجريات الأمور قاصرة جدأ كما أسلفنا، وإلاّ لما كان حدث ما يحدث الآن، وآليات عملها بطيئة وغير ملائمة لنسق تطوّر الأحداث والخطابات. فقرار رئيس الحكومة خفض أجور أفراد الطبقة الحاكمة في السلطتين التشريعية والتنفيذية الحالية والسابقة قرار ينكأ الجراح ويدين أكثر ممّا يشفع ويبرّئ.

  • سيتضاعف الاختراق الأجنبي للبلد بطرق مختلفة وخصوصا من الناحية الاتّصاليّة. وسيطلق العنان للمفاجآت والأخبار والشائعات والمغالطات والأسرار.
  • يبدو محتملا جدّا حدوث مواجهات أو أحداث عنف لأنّ مقوماتها موجودة.
  • يبدو واردا جدّا حصول عمليات تهريب أموال. وسيزداد الوضع الاقتصادي صعوبة إذا استحكمت الإضرابات.
  • ستكتسب المنظّمات ذات الصبغة النّقابيّة توجّها سياسيّا واضحا وستكون طرفا فاعلا في توجيه الأحداث.
  • ستتدخّل المؤسّسات الدينيّة لتوجيه الشارع.
  • ستظهر شعارات تدين ارتهان القرار اللبناني ويقوى خطاب التقاذف بالتهم كالعمالة والخيانة بين المعسكرات السياسية. وفي هذا سيكون الحراك اللبناني أجرأ على انتقاد النّظام العربي والدّعوة إلى تغييره.
  • ستظهر اصطفافات جديدة داخل المؤسسات الإعلاميّة.
  • ومن المستبعد جدّا انهيار الدّولة اللبنانيّة حتّى في حالة الفراغ السياسي لأنّ ذلك يرشّح البلد لهيمنة طرف سياسي طائفي على الوضع الأمني وسقوط لبنان بيد دولة إقليميّة.
  • سنشهد تدخّل أطراف عربيّة خليجيّة ماليّا لانتشال الوضع الاقتصادي ومنع تفاقمه وذلك لعدم إفساح المجال لمزيد من التغلغل الإيراني ولمنع امتداد الحراك اللبناني جغرافيّا.

إذا تبيّنت إمكانية سقوط الحكومة والتّوجّه إلى تغيير جذري يمسّ بنية النظام الطّائفية فستكون لحزب الله مصلحة في منع ذلك بالقوّة وجرّ الوضع إلى المواجهات لأنّ كفّة الحزب راجحة في حالة نشوب عنف مسلّح. وهذا هو أكبر خطر يتهدّد لبنان حاليّا.
وقد تعرف الساحة المصريّة في قادم الأيّام موجة احتجاج جديدة في إطار تبادل التأثّر والتّأثير بينها وبين تونس والجزائر والعراق ولبنان.

الدّكتور عماد محنان، تونس

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock