ماذا بعد قرآن التراويح ؟
عبد القادر عبار
من الابتهاج بالتلاوة .. إلى التلاوة المنتجة
من الأمانة الإقرار بان هناك انتشاء وابتهاجا وتفاعلا مع تلاوات قران التراويح في رمضان.. والتي أبكت الكثيرين واقشعرت لها جلود البعض ووجلت لها قلوب آخرين.. ولكن ماذا بعد غلق مصحف التراويح مع انتهاء رمضان هل لذلك الانتشاء والابتهاج من اثر ملموس في النفس والأخلاق المعاملات ؟
شعار.. أطلقه خبير
المهمومون بواقع الأمة في زمن غثائيتها والمهتمون بسبيل النهوض بها من كبوتها والعاملون على مسح الأذى عنها والغيورون على دفع البأس عنها.. يرون في مقولة الإمام مالك بن انس رضي الله عنه “لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها” خير شعار محفز للهمة ومصوب للفعل ومقوم للخلل.
هذه الجملة قال عنها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عام 1952: “جملة وإن لم تكن من كلام النبوة.. فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها”.
فهذه الأمة ما استقامت في عهدها الذهبي إلا على هدي القرآن، وهدي من تحرك به بين الناس ومشى به في الأسواق صلى الله عليه وسلم. هذا القرآن الذي وصفه منزِّلُه بأنه إمام يقود، وأنه موعظة تحفز وتشحن، وأنه نور يهدي، وأنه بيان يرشد، وأنه رحمة تنشر، وأنه شفاء للنفس من أسقامها وللمجتمع من علاته، وأنه لا يهدي للتي هي أقوم سواه.
فالقرآن قد أصلح نفوسا انحرفت عن فطرتها وحرر عقولا كبلتها التبعية والتقليد ففتح أمامها بدائل التأمل ونوافذ التعقل ثم أنتج من تلك العقول والنفوس نخبا صالحة فاعلة غيرت بعدما تغيّرت وتركت بصمات مشرقة كما عالج قضايا البشرية المعقدة والمتكررة كالفقر والغنى والظلم السياسي والقهر الاجتماعي.
وصفة الطبيب .. قراءتها لا تشفي المريض
• مجرد قراءة مريض لوصفة يتسلمها من طبيب مهما كان مختصا وحاذقا وتكراره لها مرارا حتى إتقان حفظها لن تؤدي مهما كانت دقيقة ومفصلة ومرتبة إلى شفاء ولن تحصل معها عافية إذا لم يعمل المريض على تطبيق ما فيها من تعليمات تطبيقا واعيا وإتباع ما فيها من ٕ إرشادات دون تجاوز ولا تطفيف.
• وهو ما ينطبق على تعاملنا القاصر مع تلاوتنا للقران الكريم لعلاج وضع الأمة المريض والسقيم.. فتعاملُنا مع ال (114) وصفة قرآنية ،طوالها وقصارها.. مكيها ومدنيها ،المنزلة من عند ربنا والمحتوية على (6236) تعليمة علاجية وتوجيهات وقائية، ترغيبها وترهيبها ،محكمها ومتشابهها والمتكونة من (77439) كلمة والتي اكتفينا للاسف بتلاوتها وحفظها وانشغلنا عن تفعيلها الواقعي بإحصاء حروفها ال (321180.) وزهدنا في تنزيلها وغفلنا عن تحقيقها في السلوك والأخلاق وفي المعاملات والتواصل.. وفي السياسة والحكم والاقتصاد فان الأمة لم تغنم منها بعافية ولم يلامسها منها شفاء وبقيت تراوح مكانها.
• الأسطول يسير بالبخار.. لا بقراءة البخاري.
• مما يروى عن العثمانيين في أيام حروبهم مع الغرب (وهو من المضحكات المبكيات) انهم كانوا يستدعون بعض الشيوخ الى الأسطول البحري ليقرءوا “البخاري” من أجل البركة وتلمسا للنصر في المعارك القادمة، وقد غاب عنهم إن الأسطول إنما يسير بالبخار وليس بالبخاري، وان البخاري رحمه الله لم يجعل من كتابه أطلسا للمعارك البحرية وانما تكسب الحروب بحسن الإعداد المادي والعدة والعتاد من باب “أعقلها وتوكل” فقراءة البخاري دون إدراك فقه الأخذ بالأسباب، لا تجعل السفينة تتحرك إذا كان الربان يكتفي بقراءة البخاري ولو كانت قراءة منغمة ومرتلة، فقراءة صحاح السنة، دون التعامل مع الأسباب لا تنفع إطلاقا.
• الذين سبقونا بالإيمان ترجموا آيات الإعداد.. إلى إعداد.
• وقد كان الأوائل من النخبة المؤمنة والمؤسسة قد اشتبكوا مع الروم في معارك بحرية منها معركة ذات الصواري، ولم يكن العرب قد مارسوا او تعودوا على معارك البحر، ولكنهم علموا أنهم لن يكسبوا المعركة ضد الروم إلا إذا صنعوا ادوات المعركة اللازمة وحذقوا استعمالها فصنعوا السفن واشتبكوا مع العدو، وما فكروا في أن يجعلوا من تلاوة القران أو قراءة كتب السنة بركة لكي ينتصروا، وانما ترجموا آيات الإعداد إلى إعداد مادي ونفسي وأحاديث القوة إلى قوة ورقائق الأخلاق إلى أخلاق. وهو ما يسمى بتلاوة المعرفة التي تقود إلى العمل وتحفز إلى التغيير.
• واكتفينا من هدي القران.. بتلاوة التنغيم.
فما هو التنغيم ..؟ وما هي تلاوة التنغيم ؟
التنغيم هو حسن الصوت في القراءة وهو مصطلح لساني.. يدل على ارتفاع الصوت وانخفاضه في الكلام. ويسمى أيضا موسيقى الكلام.
تلاوة التنغيم ؟
وقد ركز المرتلون للقران على التنغيم لعلمهم بالتأثير ألحيني على المنصت والمستمع وفي الأشرطة الصوتية والمرئية للتسجيلات الخارجية لكثبر من القراء من نسمعه من صراخ المستمعين وتفاعلهم وتأوههم خير دليل على تأثير التنغيم عليهم.. ولكن ليس له امتداد خارج القاعة او المسجد اذ ينتهي تاثيره بانتهاء التلاوة.
وللجاحظ كلام عجيب بخصوص التنغيم وتاثير الصوت الحسن على النفوس حيث يقول: أمر الصوت عجيب وتصرفه في الوجوه اعجب، فمنه ما يسر النفوس حتى يفرط عليها السرور حتى ترقص، وحتى ربما رمى الرجل بنفسه من حالق، لأن من ذلك ما يزيل العقل حتى يغشى على صاحبه، كنحو الأصوات الشجية، والقراءات الملحنة، وليس يعتريهم ذلك من قبل المعاني، لأنهم في كثير من ذلك لا يفهمون معاني كلامهم، وقد بكى “ماسر جويه” من قراءة “أبي الخوخ”، فقيل له: كيف بكيت من كتاب الله وانت لا تصدق به؟ قال: إنما أبكاني الشجا. (التنغيم) وكانت الأمهات ولا زلن ينومن الصبيان بالأصوات المنغمة.
إن تلاوة التنغيم التي لا يتعدى أثرها الابتهاج والنشوة الوقتية.. لم نرها ساهمت في علاج ظلم اجتماعي ولا خففت فقرا عن معوزين ولا دفعت كيدا عن مستضعفين ولا حررت وطنا من محتلين.
كيف تعامل أبو أمامة مع تعليمة الرسول
1. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ؟، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلَامًا، إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ: أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ ؟، قال قلت: بلى يا رسول الله، قال: قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ”، قال ابو امامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همي وقضى عني ديني.
2. عندما اقترح الرسول على أبي أمامة الأنصاري، كحلّ لقضاء دينه وذهاب غمّه وهمّه.. بان يقول كل صباح وكل مساء “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن …” .. لم يفهم أبو امامة أنّ عليه أن يكتفي بترديد الدعاء (أي تلاوة التنغيم) ثم يمسح على وجهه بيديه تبرّكا ليتحقق المقصود.. وإنما فهم من وصية الرسول أن عليه أن يتخلص من الأفكار السلبية (وَهْمُ العجز ووَهْمُ الخوف ووَهْمُ الضعف..) التي كانت تعطله وتكبله.. وتمنعه من الفاعلية والكسب والإنتاج.. وأن يعوضها ويتسلح بدلها بالأفكار الايجابية.. من الثقة بالنفس والهمّة العالية والإقدام والمغامرة والحركة.. ولهذا عندما غيّر ما بداخله واغتسل من سلبياته خصل المقصود فقال: فقضى الله عني ديني وأزال عني همي وغمي.
كانت تلاوتهم.. تواصلا روحيا وتفاعلا عقليا مع الآيات
• الشاهد ما رواه حذيفة بن اليمان قال: “صليت مع النبي صلى االله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها.. يقرأ مترسلا لا يمر بآية رحمة إلا وقف فسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف فتعوذ.
• فإذا مر بآية فيها تسبيح سبح.
• لماذا قام ذلك اللديغ الذي رقاه سيدنا ابو سعيد الخدري بالفاتاحة وكأنه نشط من عقال ِ ونحن يقرؤها بعضنا لا على لديغ أفعى بل على أخف من ذلك فلا يشفى ولا يبرأ؟ أليست هي الفاتحة نفسها بحروفها ومدودها؟ ٕ المتغير هو نوعية التلاوة وحال تاليها.الايمانية ففتلاوتهم كانت تلاوة معرفة ويقين، وأما تلاوتنا فتلاوة حروف ومدود ووقف وقلقلة.
• عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قُلْتُ لِجَدَّتِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: كيف كان أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُونَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تَدْمَعُ أَعْيُنُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، قَالَ فَقُلْتُ لَهَا: إِنَّ نَاسًا الْيَوْمَ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرَّ أَحَدُهُمْ مُغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(٣).
ومَرَّ ابْنُ عُمَرَ: بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطًا فَقَالَ: مَا بَالُ هَذَا؟ قَالُوا: إِنَّهُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَ اللَّهِ سَقَطَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّا لِنَخْشَى اللَّهَ وَمَا نَسْقُطُ! انَّ الشَّيْطَانَ لَيَدْخُلُ فِي جَوْفِ أَحَدِهِمْ، مَا كَانَ هَذَا صَنِيعَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ(٥)
وعلق ابْنِ سِيرِينَ على الَّذِينَ يُصْرَعُونَ إِذْ قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ؟ فَقَالَ: بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنْ يَقْعُدَ أَحَدُهُمْ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ بَاسِطًا رِجْلَيْهِ ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ رَمَى بِنَفْسِهِ فَهُوَ صَادِقٌ(٧).
من الابتهاج بالتلاوة.. إلى التلاوة المنتجة
• التلاوة المنتجة هي التلاوة الفاعلة للقرآن.. التلاوة َّ التي تؤثر في قارئها، فتتحول إلى فعل منتج وعمل بناء، ودعوة وتغيير، تحول الآيات إلى منهج حياة، لان المقصود من التلاوة كما يؤكد ابن حجر رحمه االله تعالى.. هو الحضور الواعي والفهم الممهد للفاعلية، والتطبيق الحكيم للتعليمة القرآنية ولهذا جاء في الحكمة: “لا تخبر الناس كم تحفظ من القرآن الكريم، بل دعهم يرون فيك قرآنا أطعم جائعاً. كسا عارياً، ساعد محتاجاً، رحم يتيماً، سامح مسيئاً… فليست العبرة أين وصلت في حفظ القرآن ؟ إنما أين وصل القرآن فيك وماذا غير القران منك.
• “النوْرسي”.. والدعوة الى التلاوة المنتجة
وللإمام “النوْرسي” المفسر التركي بحث لطيف في التلاوة المنتجة عند تلاوة الآيات الخاصة بمعجزات الانبياء فهو يراها تدعو إلى التأمل المنتج واستلهام المخترعات والوصول الى انتاج الوسائل التي توصل الى أشباهها فالله سبحانه عند عرضه لمعجزاتهم المادية يومئ إلى إثارة شوق الانسان ليقوم بتقليد تلك المعجزات ويشير الى حثه على بلوغ نظائرها،.
فلا يمكن ان تكون آيات المعجزات، سرداً تاريخياً، بل لابد ان القرآن الكريم بايراده معجزات الانبياء إنما يخط الحدود النهائية لأقصى ما يمكن ان يصل اليه الانسان في مجال العلوم والصناعات.
ويضرب لذلك مثلا في تلاوة معجزة عيسى عليه السلام “أبرئ الاكمهَ والأبرصَ وأحيي الموتى بإذن الله..” فالتلاوة المنتجة لهذه الآية الكريمة تشير الى:
إنه يمكن للانسان المتفاعل مع السنن الكونية والذي يحسن التعامل مع الأسباب ويغترف من العلوم.. أن يعثر على دواء يشفي أشد الأمراض المزمنة والعلل المستعصية، فلا تيأس ايها الإنسان، ولا تقنط أيها المبتلى المصاب، فكل داء مهما كان له دواء، وعلاجه ممكن، فابحث عنه، وجِدْه، واكتشفه، بل حتى يانه مكن معالجة الموت نفسه بلون من ألوان الحياة المؤقتة.
فمتى نتجاوز تلاوة الابتهاج.. الى تلاوة الإنتاج ؟