الرمانة
حسن الصغير
عندما التحقت عام 1983 بمعهد الحسين بوزيان بقفصة تلميذا داخليا كنت أعاني كثيرا كل نهاية أسبوع بسبب القوانين الغريبة والظالمة.
فقد كان المعهد يغلق أبوابه منتصف نهار السبت ولا يفتحها إلا عند العشاء، ثم يعيد إغلاقها صباح الأحد ويفتح فقط للغداء قبل أن يغلقها مرة أخرى ولا يفتحها إلا في وقت متأخر من المساء.
وخلال هاته الفترات نتوه نحن التلاميذ الجدد والصغار في شوارع المدينة ومقاهيها ونتعرض لشتى صنوف الإذلال فتارة يطردنا أصحاب المقاهي لصغر سننا وفراغ جيوبنا، وطورا نتعرض للسطو من أبناء المدينة الذين يعرفوننا بملابسنا البسيطة وغير المتناسقة وشرودنا في الشوارع فيحاولون أخذ أموالنا بالقوة والتهديد، وتارة أخرى نتوه في الأزقة والأحياء ولا نعرف طريق العودة إلا بشق الأنفس.
وذات يوم كنت أشكو هذه المتاعب لأحد الأصدقاء عندما قال لي إنه يذهب في نهاية الأسبوع عندما يغلق المعهد أبوابه إلى واحة قفصة حيث عيون الماء وظلال النخيل ويقضون اليوم في اللعب والمرح وأكل ثمار الرمان التي تمتلئ بها الواحة.
راقتني الفكرة كثيرا خاصة وانا ابن الريف الذي ألف الأشجار منذ نعومة أظفاره وتدرب على تسلقها بخفة وانتزاع ما خفي من ثمارها مهما بعدت في أعالي الأغصان.
وفي الليل خلال فترة المراجعة عرضت الفكرة على ابن خالتي عز الدين رحمه الله فوافق بشدة خاصة وهو يعاني مثلي من نفس المشكلة وعرضنا الفكرة على صديق ثالث لكنه رفض لأسباب أجهلها.
وفي ظهر يوم السبت وبعد الغداء مباشرة ترافقت مع عز الدين إلى الواحات الواقعة جنوب المدينة ولم نبلغها إلا بعد فترة طويلة نظرا لعدم معرفتنا بتضاريس وجغرافية المكان.
وبعد ان توغلنا داخل الواحة اخترنا مكانا هادئا وارف الظلال قرب ساقية ماء رقراقة وقطفنا رمانتين كبيرتين وجلسنا في ظل شجرة لنأكل ونتحدث.
وعندما كنت منهمكا في معالجة الرمانة الحمراء الكبيرة التي قطفتها وكل تركيزي منصب عليها فوجئت بعز الدين يهب واقفا ويرمي الرمانة ويطلق ساقيه للريح وقبل ان ألتفت ورائي لأستجلي الأمر أمسكت برقبتي يد فولاذية وأطبقت أصابعها بقوة حتى كدت أخرج ما في بطني، التفت بصعوبة شديدة فرأيت عملاقا أسمر البشرة له شاربان كثيفان ويلف رأسه بقماش يغلب صفاره على بياضه، ويتأبط بيسراه عصا غليظة بينما لا تزال يمناه ممسكة برقبتي وأنا أحاول يائسا التملص منها كعصفور صغير.
نظر إلي الرجل الذي خمنت أنه صاحب البستان أو حارسه وسألني ماذا أفعل ومن أين حصلت على الرمان؟ فلم أر فائدة في الإنكار وأجبته بأني أخذت هذه الرمانة فقط لأني جائع وأنا مستعد لإرجاعها فورا فقط ليدعني أذهب في حال سبيلي.
وبينما كنت انتظر الأسوأ تفرس الرجل في وجهي ويبدو أنه رق لصغر سني وضعف بنيتي ووجهي الطفولي ففك وثاق رقبتي وطلب مني الذهاب في حال سبيلي.
ومن فرط فرحي بالنجاة شكرته وببراءة الطفولة مددت له الرمانة التي لم أفتحها بعد وقضمت فقط جزءا من قشرتها بأسناني، لكنه تجاهلني واخذ الرمانة التي رماها عز الدين وناولني إياها قائلا خذ رمانتك وخذ هذه أيضا وإذا جعت أطلب من أصحاب البساتين ولا تسرق.
أخذت الرمانتين وابتعدت قليلا ثم أطلقت ساقي للريح وأنا لا أصدق بالنجاة، وخلال العدو انتبهت إلى أني أحمل رمانتين والأكيد أن من يراني من أصحاب البساتين سيتهمني فورا بالسرقة لذلك رميتهما وواصلت طريقي في متاهات الواحة أحاول اتباع الطرق المكشوفة حتى لا أفاجأ بيد فولاذية أخرى تطبق على رقبتي، ومتأهبا للفرار وتغيير الاتجاه في أي لحظة، وبعد لأي وصلت إلى الطريق الرئيسية فأسرعت أحث الخطى إلى المعهد وأنا لا أصدق أني نجوت.
وعند العشاء التقيت عز الدين رحمه الله فأعلمني أنه ظل يرقب المشهد من بعيد وعندما أطلقني الرجل حاول اللحاق بي لكنه لم يعرف أي طريق سلكت، فشعرت بالخيبة لأن ذلك قطع علي الطريق لاختلاق رواية أكون فيها البطل الذي واجه القبضة الفولاذية بشجاعة.
المهم أني لم أعد منذ ذلك اليوم إلى الواحة، وصرت كلما رأيت رمانة كبيرة أتذكر هذه الحادثة!!!