تدوينات تونسية

دقيقة صمت

حسن الصغير
دخلنا الفصل متثاقلين في ذلك الصباح الخريفي الثقيل المشبع بالرطوبة، فالمدارس فتحت أبوابها منذ أيام قليلة ومازالت أجسامنا لم تتخلص بعد من كسل صباحات العطلة الصيفية الطويلة.
وعلى غير العادة لم يلتحق معلمنا سي الفيتوري بالقسم وكنا نراه من خلال النافذة يقف في الساحة مع المدير وبعض المعلمين يتناقشون حول أمر استنتجنا أهميته من خلال مشاركة الجميع في النقاش والحديث بحماس وجدية مفرطة.
بقينا نلعب ونتجاذب أطراف الحديث إلى أن دخل معلمنا تعلو سحنته مسحة من الحزن لم نعرف أسبابها، وعلى غير العادة وقف بمواجهتنا وظهره إلى السبورة الخضراء المتهالكة وقال لنا “أرجعوا أدواتكم إلى المحافظ فلن ندرس اليوم” ثم أردف “هذا يوم حزين لقد هاجم جيش الاحتلال الإسرائيلي والميليشيات العميلة مخيمي صبرا وشاتيلا في لبنان وقتل المئات من إخوتنا الفلسطينيين المدنيين العزل” ثم طلب منا أن نقف دقيقة صمت ترحما على أرواح الشهداء.
كان من الممكن أن نسعد كثيرا لأننا لن ندرس اليوم لكن الأمر يختلف هذه المرة، وبطلب من المعلم وقف جميع التلاميذ، ثم نظر سي الفيتوري في ساعة يده وقال “الآن” ثم ساد الصمت الرهيب.
لا أخفيكم أني لم أفهم بالضبط ما معنى دقيقة صمت؟ فلم يسبق لي أبدا أن رأيت أناسا واقفين في عملية صمت منظم تدوم دقيقة لا تنقص ولا تزيد، وحاولت جاهدا أن أجد علاقة بين الموت والحزن ودقيقة الصمت لكني لم أجد أي رابط، لكني وللأمانة شعرت برهبة شديدة من هذا الموقف المهيب.
وبعد دقيقة قال المعلم استريحوا واجلسوا وسنتحدث اليوم عن المجزرة وقضية فلسطين ثم طلب مني أن أذهب إلى المدير في قسم الصف السادس وأطلب منه الجريدة.
كانت المسافة بين القسمين لا تتجاوز العشرين مترا لكنها كانت كافية لأن أرى صورة كبيرة على الصفحة الأولى لجريدة الصباح بالأبيض والأسود فيها جثث منتفخة ومكدسة بشكل غير منظم لقتلى يرتدي أحدهم فردة حذاء واحدة ويبدو أنه فقد الأخرى وهو يحاول الفرار من الموت.
وصلت قسم الصف الخامس وسلمت الجريدة للمعلم فأرى الصورة للتلاميذ وبدأ يقرأ لنا أخبار المجزرة ويطنب في الوصف والتفسير وكنت كلما تأملت الصورة خنقتني العبرة وانا أتخيل مقدار معاناة هؤلاء القتلى البؤساء وهم يفرون من الموت الذي يلاحقهم من ركن إلى ركن بلا ذنب اقترفوه.
لا أخفيكم أني لم أفهم الكثير مما قاله المعلم، فقد سبق لي أن سمعت كلمات فلسطين والقضية الفلسطينية وإسرائيل في الأخبار وخاصة في برنامج تبثه الإذاعة كل مساء وعنوانه “صوت فلسطين” لكني لم أكن أتابعه باهتمام كبير، وخلال المرات التي يترك فيها والدي رحمه الله المذياع مفتوحا خلال بث هذا البرنامج كنت أستمع إليه فقط لإعجابي بنبرات صوت القارئ وطريقة كلامه، وخاصة تلك الأغنية التي تأتي في نهاية البرنامج وتقول كلماتها:
“فلسطين داري
فلسطين ناري
فلسطين ثأري
وأرض الصمود”
والتي كانت تبعث في حماسا غريبا لا أدري مأتاه.
وزاد من حيرتني وحزني قول المعلم إن الفلسطينيين إخواننا رغم البعد الجغرافي، وأن تحرير فلسطين واجب علينا جميعا بالمقاومة المباشرة والدعم المالي للثوار.
انتهت تلك الحصة الحزينة وعدت إلى المنزل يملأني الحزن والقهر، فقد حدثنا المعلم كيف أن العدو الصهيوني اغتصب أرض فلسطين وبات يقتل أهلها ويشردهم والعالم لا يبالي، وعندما سألناه لماذا لا يدافعون عن أنفسهم؟ أجابنا بأن العالم يمنع عنهم السلاح ويزود إسرائيل به ويدعمها.
وخلال الطريق كنت أفكر في تلك الصورة والكلام الذي قاله المعلم فأتمنى أن أكبر بسرعة وأن أحصل على بندقية لأقاتل الإسرائليين، وأنتقم لأولائك القتلى الأبرياء الذين شردوا من وطنهم وقتلوا غيلة وشوهت جثثهم، لكني في الوقت الحاضر لا أملك غير الحنق والبكاء.
واليوم وبعد مرور 36 سنة على هذه الحادثة مازالت تلك الصورة مرسومة في ذهني بكل تفاصيلها المؤلمة!!!
https://www.youtube.com/watch?v=TkHMpttMdvM

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock