تدوينات تونسية

حبتي طماطم ورأس بصل وخيارة وجلف خبز يابس

نور الدين العويديدي
في شتاء 79/78 من القرن الماضي كنت طفلا صغيرا، أدخل لأول مرة معهد 18 جانفي في جبنيانة.. كنت حزينا على وفاة الوالد رحمه الله تعالى، وهو الذي لقي ربه مطلع شهر سبتمبر، بعد تسجيلي في المعهد وذهابه إلى مدينة المحرص لتسجيل شقيقي عبد المؤمن، الذي يكبرني بثلاثة أعوام، وكان والدي رجلا بسيطا طيبا له عائلة كبيرة متكونة من 4 أولاد و4 بنات.
حين توفي الوالد، عليه رحمة الله، شعرت بمرارة الحزن ممزوجا باليأس من انقطاع الدراسة.. العائلة فقيرة، وعدد أفرادها كبير، والإمكانيات محدودة.. لكن الوالدة حفظها الله طمأنتني قائلة إن دراستي أمر لا يقبل النقاش.. لقد كانت واعية أن أفضل استثمار يمكن أن تستثمره عائلة هو الاستثمار في العلم والتعلم.. وبالفعل حين جاء الموعد ذهبت للمعهد وكأن الوالد حي يرزق.
مطلع الخريف كان الطقس دافئا والملابس الخفيفة و”شلاكة البلاستيك” لا يضيران المرء في شيء.. فلم يكن ثمة خجل من تواضع ملابسنا وقلة ذات أيدينا، فمعظم التلاميذ من أبناء الريف وأحوالهم المادية متشابهة.. وليس بوسع أحد أن يتكبر على أحد آخر.
أما حين جاء الشتاء وعصف بريحه وهطلت أمطاره فكان البرد شديدا جدا، وكانت آثاره تظهر على اليدين والقدمين “حشفا” سوداء وشقوقا صغيرة دامية، وخاصة من أثر الوضوء بالماء البارد دون وجود منشفة.
الأمر الرائع في القصة أن النفوس كانت قوية بما يكفي، بحيث لم يكن برد الشتاء والشقوق والجروح الصغيرة الدامية تمنعنا من الاستمتاع بما يتاح لنا من القليل من خيرات الدنيا.. كنا نأكل القليل باستمتاع.. نشبع مرة ونجوع مرة.. ولكن لا الشبع يطغينا ولا الجوع الكافر يحطمنا.. فقد اعتدنا الحياة وما تأتينا من تصاريفها وتبدلاتها العجيبة.. نتقبلها بمرح ونفس رضية.
لم يضع كل ذلك اليوم بحمد الله.. فعلى الرغم من أنني لم أعد أطيق برد الشتاء كما كنت أطيقه من قبل، فإنه بحمد الله بوسعي أن آكل أكل ملوك وأشكر، وبوسعي أن آكل أكل رعاة وأشكر.. لا هذا يطغيني ولا ذاك ينقص من قيمتي.. ولقد مرت علي أيام من أيام العزوبية الطارئة، وأنا أتقاضى راتبا محترما، وأكتفي بحبتي طماطم ورأس بصل وخيارة وجلف خبز يابس وماء بارد.. وأنام قرير العين وكل مشاكل العالم لا تعدو أن تجاوز قيمة شعرة في مفرقي.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock