تونس ما بعد ثورتها: هل كان ممكنا أحسن مما هو كائن؟ (1)
نور الدين الختروشي
(الجزء الاول)
“إذا أردنا أن نختصر التجربة في جملة واحدة فإننا نقول إنّ النّهضة اتخذت مسارا خاطئا ورّطها في توافق مغشوش ضيّع الثّورة وأهدافها والحركة ومشروعها”
هذه الجملة هي اخر سطر في مقال تحليلي مطول حول مآلات الحالة التونسية بعد الثورة. وهي خلاصة عادية ومتكررة ومتواترة في أكثر من تحليل ومقاربة للحالة التونسية، فأهمية الخلاصة ليست في المضمون بل في مصدرها، فصاحب التحليل هو أحد القياديين السابقين في حزب حركة النهضة التي تولى قيادة البلاد منذ الثورة الى الان سواء من موقع الحزب الاول او الثاني فالدكتور سهيل الغنوشي الذي هو بالمناسبة ابن شقيق زعيم حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي من قيادات العمل الاسلامي الوازنة في أمريكا الشمالية وأستاذ جامعي هناك وشخصية اعتبارية مؤثرة في أوساط المسلمين الامريكيين، وقد نشر مقاله بعنوان “تونس والنهضة.. لم يكن بالإمكان أسوأ مما كان” في موقع الجزيرة نت، الشهير بانحيازه للثورات العربية.
أهمية الخلاصة التي نحن بصددها لا تستمدها من مضمونها وما جاء فيها ولكن من كاتبها والموقع الاعلامي الذي نشرها.
بالعودة الى مرتكزات تحليل الدكتور الغنوشي نلاحظ بداية انه ليس المرة الاولى التي ينشر فيها مقالا تحليليا تقييميا للحالة التونسية في نفس الموقع الاعلامي الشهير، فقد سبق وان كتب في نفس الاطار والمضمون مقالا شبيها منذ أشهر أثار ردود أفعال متفاوتة بين القبول والرفض في أوساط النهضويين والاسلاميين عموما. ذلك ان الهاجس الذي يكتب على أساسه الكاتب هو واقع الحالة الاسلامية الحركية باعتبار موقع الرجل الحركي تاريخيا سواء في مواقع القيادة المركزية لحركة النهضة، او في الهياكل الاممية لتيار الاخوان المسلمين في أمريكا الشمالية. فالصفة الميدانية والحركية للرجل هي الغالبة او المحددة في ما خطها الاكاديمي الاسلامي حول التجربة التونسية.
يبدو خطاب السيد الغنوشي مشدودا الى أرق اللحظة الايديولوجية والحزبية بأكثر مما هو مهموم بقلق اللحظة الوطنية وصداع ممكنات تحولاتها المتسارعة والمفتوحة على المفترض والمتخيل. وهذا كان واضحا من خلال نقده المزدوج لخيارات حزبه حركة النهضة وللحالة التونسية في عمومها،
كل أهمية النص في صفة كاتبه في الحالة وهي صفة “القيادي في حركة النهضة” وصفته او موقعه السياسي هو ما يهمنا في هذا التفاعل مع نصوصه.
خلاصة ما كتب في نصه السابق بالتزامن مع انعقاد المؤتمر العاشر لحزبه واللاحق منذ أسابيع ، يتمحور حول فكرة تزييف الوعي باللحظة التاريخية بخيانة ثوابت الرؤية لمشروع التحرر الوطني، وفكرة الانحراف بمسار الثورة بخيانة محمولها السياسي والاجتماعي.
يبدو سهيل الغنوشي وهو يقرأ موجودنا السياسي الوطني مرتاحا ومرتاحا جدا على سرير الطمأنينة الايديولوجية وقوالب رؤيته لما تواطئنا على تسميته بمشروع التحرر الوطني في أواسط القرن الماضي، وجوهره التخلص من أرث الاستعمار والتبعية والتخلف، سواء بشرط الهوية والاحياء والتجديد والتركيز على أستعادة نموذج البناء الحضاري الاسلامي في لحظته التدشينية كما نظر لذلك التيار الاسلامي، أو بالتركيز على فكرة الحداثة والمعاصرة والتحديث على قاعدة الحرية كما سوق لذلك التيار الليبرالي، أو بفكرة العدالة كما بشر اليسار العربي، أو بفكرة الوحدة كما تحمس لها التيار العروبي.
كان الزمن الايديولوجي الى اواخر ثمانينات القرن الماضي مشدودا الى سردية التحول الشامل، ولعل جشع المناضل الاسلامي والعروبي واليساري في تغيير كل الموجود الحضاري في أفق مشروعه التحرري هو ما يفسر النهايات الحزينه للاحلام الكبرى التي بشر بها خطاب التحرر في المجال العربي.
الثقافة العربية العالمة انتبهت مبكرا ومنذ هزيمة 67 الى ان هزائمنا المتكررة امام العدو الصهيوني لم تكن هزيمة عسكرية بل في جوهرها هزيمة رؤية للذات والموضوع، وانتهت مع مشاريع النقديات التي انتشرت في اوخر القرن الماضي الى ضرورة نقد بنية الخطاب والقوالب الذهنية الصادرة عنه.
وكان يبدو مسار المراجعات والنقد الذاتي مبشرا بتجذير قناعة أساسية ومركزية عند صناع السرديات الايديولوجية التي أطرت رؤيتنا لذاتنا وعالمنا وأشياءنا، قناعة تتكثف في بساطة عميقة عند شعار “لا وصاية على الحقيقة”.
فلا أحد وقع مع الحقيفة شهادة ملكية، وان كل ما صدر عن التيارات الايديولوجية والسياسية خطابا وممارسة هي ممكنات بحث عن الطريق الاقوم والاسهل والانجع لنهوضنا الحضاري الشامل بعد قرون الانحطاط ونكبة قرن الاستعمار.
تعددت في بداية الالفية مساحات الالتقاء والحوار بين الاسلاميين والقوميين واليسار العربي، وكنا من جيل تحمس حد الاستبشار بأن زمن تأميم الحقيقة العامة والوصاية عليها واحتكارها بالعنف الرمزي والتصفية الجسدية قد بدأ يتوارى وراءا، وأن زمن الحقيقة المفتوحه والمشاعة في الحيز العربي قد بدأت خيوط شمسه تضيء أفق القادم التاريخي بكل محاميله الرمزية والمادية. عند هذه النقطة من تطور الوعي الايديولوجي التقليدي، أجمعنا عموديا تقريبا على ان علة المسار نحو أفق التوازن مع الثوابت والمتغيرات هي أنظمة الاستبداد، والطريف هنا ان ما نسميها بالامبريالية او قوى الاستكبار قد أبدت استعدادا عن التخلي عن وكلائها من الانظمة العربية والتي بدت في العشرية الماضية قد فقدت مبررات وجودها الوظيفي كما سطرته تسويات كبار المتحكمين في الخارطة الاقليمية والدولية مع الحرب الباردة بين نظام القطبين وخلاله وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي. تخلص العقل الايديولوجي العربي من أهم اوهامه في تملك الحقيقة وبدأ العالم مع ولادة الانسان التواصلي من رحم ما سمي بالعولمة وثورة الشفافية وتدفق المعلومة وكأنه يساعدنا ويقدم لشعوبنا ونخبها هدية تاريخية مجانية لاقتحام زمن الحداثة السياسية بعنوان الديمقراطية، فكان زلزال الثورة التونسية وتموجه السريع والقاسي والمفاجئ اعلانا على تحول تاريخي عميق تخمرت فيه كل ممكنات التغيير نحو ألق التحرر الشامل كما سطرته عناوين السرديات الايديولوجية التقليدية.
عند هذه النقطة بدأ مسار تموقع وفرز جديد للقوى الفاعلة في المشهد. خارطة الفرز وديناميكية التموقع بدأت معالمها تتبلور على قاعدة الانحياز لزمن التغيير الافقي الشامل الذي اخترق الوعي السياسي لكل النخب التقليدية. ولعله من المفيد التذكير ان تلك النخب كانت تبحث اختيارا او اضطرار عن صيغ التعايش المؤقت مع أنظمة الاستبداد للحفاظ على الادنى من معاني الاجتماع السياسي الوطني، التي هددتها حروب الخليج وعشرية الدم الجزائرية وعبث عصابات القمع العاري الرسمي من المحيط الى الخليج.
كان عنوان الاصلاح وممكنات التحول نحو الديمقراطية والانظمة السياسية المفتوحة جوهر أجندة العقل السياسي المعارض للسائد العربي، وكَفَّ الاسلاميون والقوميون واليسار عن حلم الثورة، ليس لانه حلما غير مشروع، بل لانه تحول بعد تراكم الخيبات والهزائم الى حلم مستحيل.
كم كانت قاسية تلك اللحظة التي رفع فيها التونسيون شعار “الشعب يريد” وكم كانت منعشة أيضا لكل من هدته سنوات عقود “الحجر السيزيفي” “بين صعود الى قمة الامل والتهاوي الى قاع اليأس..
كانت قاسية لانها قوضت جزءا مهما من خلاصات تقييم استراتجيات التغيير التي أطمأن لها العقل السياسي الايديولوجي وفي مقدمتها استحالة الثورة ذاتها في المجال العربي هنا مربط الفرس وصرة المعنى في الارتباك الذي يعتري مقاربات ما سمي بالربيع العربي سواء التي تحمست لجوهره الثوري او التي ركزت على بعده التآمري.
تبدو قراءة الدكتور سهيل الغنوشي لمحاصل الثورة التونسية تعبيرا مباشرا عن ذلك الارتباك في استيعاب هدير تحولات اللحظة الوطنية المابعد ثورية.
يتبع
جريدة الرأي العام