صالح التيزاوي
كان من المؤمّل بعد الثّورة أن تتّجه الأنظار إلى إصلاح المنظومة التّربويّة التي أصابها التّرهّل وأصبحت عاجزة عن مواكبة تحوّلات المجتمع التّونسي والإستجابة لتطلّعات الثّورة. غير أنّ المناكفات الحزبيّة والإنشغال بصياغة الدّستور و”التوجّس” من تأثير محتمل لمنظومة الحكم التي أفرزتها انتخابات 2011 في مجريات هذا الإصلاح.
هذه العوامل أدّت إلى تأجيل الإصلاح إلى ما بعد انتخابات أكتوبر 2014 التي أتت بناجي جلّول على رأس وزارة التّربية. إختار ناجي جلول شركاءه في عمليّة الإصلاح، “النّقابة العامّة للتّعليم الثاّنوي” و”المعهد العربي لحقوق الإنسان”. ورغم ذلك فقد توتّرت العلاقة بين الشّركاء، وتأزّمت إلى حد القطيعة بسبب فردانيّة الوزير ونرجسيّته المفرطة والقفز على عمل اللّجان بتقديم مقترحاتها لوسائل الإعلام على أنّها إصلاحات أدّت منهجيّة الوزير المتشنّجة إلى إغراق القطاع في فوضى من القرارات والقرارات المضادّة. رافقتها احتجاجات تصعيديّة من المربّين وسط حيرة بخصوص واقع الإصلاح التّربوي وآفاق المستقبل.
أفضت سلسلة الإحتجاجات إلى إقالة الوزير في غرّة ماي 2017 مع ما في هذا الحدث من رمزيّة. ومنذ ذلك الحين خفت الحديث عن الإصلاح التّربوي. وبانتظار استئنافه لا بدّ من استخلاص العبرة ممّا سبق، ولا بدّ من إتاحة الفرصة للتّشخيص قبل الولوج إلى المقترحات. إنّ الخلل والقصور قد لامسا مختلف جوانب المنظومة التّربويّة. فما هي مكامن العجز والخلل في منظومتنا التّربويّة؟
1. هيمنة المعطى السّياسي في كلّ إصلاح تربوي منذ بداية الإستقلال. ذلك أنّ إصلاح 1958 أو ما اصطلح عليه بمشروع محمود المسعدي، كان عاكسا لصراع بورقيبة مع الحركتين
اليوسفيّة والزّيتونيّة، بما يعني أنّ الإصلاح خضع لمنطق الغلبة والغنيمة. وهذا لا يجعلنا نغفل عمّا اشتمل عليه من مكاسب لعلّ أهمّها: إقرار إجباريّة التّعليم ومجّانيته للجنسين.
أمّا إصلاح 1991 أو ما اصطلح عليه بإصلاح الشّرفي فقد تنزّل في سياق عامّ تميّز بهجمة الإبادة والإستئصال التي شنّها المخلوع على خصومه من الإسلاميين، فانتدب الشّرفي لتجفيف منابع الهويّة الذي لم يكن معنيّا بتنمية الملكات النّقديّة وتنشئة التّلامذة على مبادئ المواطنة والحقوق والحرّيات بقدر حرص مهندسي الإصلاح “الشّرفيون” على فرض أفكارهم الحزبية والأيديولوجيّة وقناعاتهم الشّخصيّة بشأن الإسلام والهويّة وفرضها على المجتمع التّونسي. وقد تكشّف فشلهم في أوّل اختبار بعد تسع سنوات حيث كشفت مناظرة “النّوفيام” عن ضعف المستوى الدّراسي ممّا دفع القائمين على الشّان التّربوي إلى الإعلان عن “دورة بن علي الإستثنائيّة” في محاولة لترميم النّتائج معيدين إلى الأذهان “دورة بورقيبة الإستثنائيّة للبكالوريا”. وأمّا إصلاح 2002 أو ما سمّي بـ “إصلاح ما بعد الشّرفي” فقد خضع لابتزاز الجهات المانحة، وهذا الأمر زاد الوضع سوءا على سوء. وكان إعلانا صريحا عن فشل تجربة التّعليم الأساسي وإصلاح “الشّرفيين”.
2. إنّ المواد المدرّسة في “إصلاح الشّرفي” وما بعده، لم تتجاوز مرحلة الحكاية كما أشار إلى ذلك بعض النّقّاد، ولم تتّجه إلى تمليك التّلميذ آليات الفهم وإكسابه المهارات والفنّيات اللّازمة
وتنمية الملكات النّقديّة لديه بما يتيح له إبراز مواهبه. أدّى ذلك إلى التّركيز في عمليّات التّقويم على الإستظهار فقط. وفي مثل هذا المناخ من الرّداءة غاب الإبداع من المربّي ومن التّلميذ
على السّواء. فليس مستغربا بعد ذلك أن تكون جامعاتنا خارج التّصنيف العالمي.
3. إنّ المنظومة التّربويّة التي ارساها الشّرفي ورفاقه برعاية النّظام النّوفمبري ركّزت على الكمّ دون الكيف، أدّى ذلك إلى الغاء مناظرتين وطنيّتين: السادسة والتّاسعة، واصبح تلميذ البكالوريا يتمتّع بتنفيل بنسبة 25% من معدّله السّنوي ويحتسب في معدّله النّهائي في البكالوريا. هذه السّياسة التّربويّة أفضت إلى تفشّي ظواهر خرّبت المنظومة التّربويّة:
الإرتقاء الآلي رغم ضعف المستوى والتّحصيل، كما تفشّت ظاهرة الدّروس الخصوصيّة التي أضرّت بمجانيّة التّعليم وبمبدإ المساواة بين ااتّلاميذ، كما أضرّت بميزانيّة العائلة المتدهورة أصلا.
ومن غرائب ذلك الإصلاح أنّه حظي بمساندة من يرفعون شعار الإنحياز للطّبقات الفقيرة والمطالبين بتعليم “شعبي” ومجّاني ومدرسة عموميّة تكرّس المساواة. يذهب بعض الخبراء في علوم التّربية إلى أنّ المنظومة التّربويّة التي أعدّها الشرفي وآله وصحبه واخرجها نظام السّابع من نوفمبر أوجدت مناخا رديئا أثّر سلبا على المربّي والتّلميذ على حدّ سواء في محيط تميّز بـ :
• ضعف التّجهيزات التي تصل إلى حدّ الإنعدام في بعض المؤسّسات التّربويّة. وضعف الرّعاية الصّحّيّة والإحاطة النفسيّة.
• غياب الصّيانة في مدارسنا وهو ما أدّى إلى اهتراء بنيتها التّحتيّة المتدهورة أصلا. لأنّ النّظام النّوفمبري عكس بورقيبة لم يستثمر في التّعليم لأنّه كان معاديا “للمادّة الشّخمة”. هذه الظّروف جعلت من المدرسة العموميّة فضاء طاردا للنّاشئة. وقد أدّى ذلك إلى ظاهرة الإنقطاع المبكّر، وتضخّم حلم الهجرة لدى شبابنا ولو بركوب الموت، فيما ارتمى آخرون في أحضان الإرهاب والتّطرّف واستسلم آخرون لليأس والإحباط لانعدام الأمل في الحصول على عمل يحفظ كرامتهم. لذا كان شعار الثّورة الأبرز “الشّغل استحقاق يا عصابة السّرّاق”.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.