السياسي والمومس… أو في انطولوجيا حيلة المدينة
نور الدين الختروشي
لست متأكدا من الساعات ولكنني على يقين أن رجل الدين والسياسي والعاهرة وقعوا عقد عملهم في اليوم الاول لتأسيس المدينة. أتحدث طبعا عن المدينة بالدلالة الاغريقية، كمجال مدني يتجمع فيه الاغراب فيضطرون لكتابة عقد تعايش والتسليم لسلطة اكراه اخلاقي ومادي وقانوني لممارسة وجودهم الاجتماعي. يومها ولدت السياسة وشرعت لوجود الدولة أو “وحش المدينة الانيق”.
ما يهمني هنا ليس تاريخ المدينة كمجال سياسي، بل رصد العلاقة بين عمالها الثلاثة الذين تطوعوا يوم ميلادها للعمل على مسك أسس عمرانها المدني وحفظه من ممكن الانهيار وخراب المدينة.
تولى رجل الدين سلطة الاخلاق فلا مدينة ولا دولة من دون “كلية رمزية” totalité symbolique تضخّ فعل العنف والاكراه الذي تمارسه الدولة بمنابع شرعيته الاخلاقية. فالمنظومة العقابية الرسمية في حاجة دائما الى بطانة أخلاقية صلبة تضخ فعل العنف بالقيمة والمعنى والدلالة. فكرة فصل الدين عن الدولة هنا فكرة طريفة ألهمت المخيال الفلسفي، ولكنها ليست حقيقة فلم يعرف التاريخ بقديمه وحديثه دولة من غير دين، أي من دون منظومة قيمية ثابتة ومتعالية وخالدة. ففصل الدين عن الدولة بدون معنى أما فصل الدين عن السياسة فقصة أخرى بمقدمات مغايرة ودلالة مختلفة. وقد تعب التاريخ السياسي الحديث للعرب والمسلمين في القرنين الماضيين في رحلة البحث الشقي على دروب اشكالية الفصل والوصل بين الديني والسياسي، وأحسب ان الفصل المنهجي بين علاقة الدولة بالدين وعلاقة السياسة بالدين قد تفتح أفاقا أخرى للقراءة والتأويل.
بعد ان وقع رجل القيمة أو الدين عقد عمله فجر اليوم الذي تأسست فيه المدينة، تقدم رجل السياسة صباحا ليتولى مهمة المناورة على “ممكن الخراب الدائم” الذي يهدد المدينة. السياسي او رجل الحيلة والمكر النبيل تكفل بحفظ توازن المصالح بين الافراد والجماعات التي استوطنت المدينة وكان دوره ومازال الحفاظ على السلم الاهلي والعمل الدائم على تحسين شروط الوجود الاجتماعي أو المدني.
في مساء يوم تدشين المدينة تقدمت المومس لتمضي عقد عملها فتكفلت بسلطة الجسد لن أستنجد هنا بفرويد لتعقل هذا العقد الفريد الذي أمضته العاهرة، ولكنني أسجل أعجابي بقدرتها على اقناع رجل الدين بحيوية دورها في حفظ التوازن السيكولوجي للفرد المديني. فخراب العمران في سردية المومس يبدأ باختلال التوازن النفسي، ومن تحته الجنسي لسكان المدينة. فالكبت الجنسي عنف ذاتي وطوعي قد ينفجر في أي لحظة ويهدد الوجود الاجتماعي بمكروه العنف الرمزي والمادي.
يمكن الان بعد أن حمنا حول حمى عقود العمل الثلاثة التي أسست لشرعية الاجتماع السياسي أن نتقدم على أرض المقارنة بين فرسان المدينة الثلاثة. سأحذف رجل الاخلاق أو الدين من المقارنة هنا لأن الموضوع يتصل بالمقارنة بين السياسي والمومس وربما نعود الى مقابلة بين السياسي والديني.
المقارنة كما نبهنا دولوز ذات يوم منبع خالد للوهم وسنتحرك على أرض المقارنة وهاجسنا البحث أولا عن المشترك بين السياسي والمومس.
نلاحظ بداية وحدة المجال الجغرافي بين الفاعلين، فالسياسي والعاهرة أبناء شرعيين للمدينة فلا سياسة في ريف، فعمق العلاقات العضوية والاهلية في الريف تمنع عموما تحول الاختلاف الى نزاع يتطلب تدخل قوة مستقلة (الدولة) لفضها.. لا حاجة في الريف لرجل الحيلة والمناورة والمكر.. الريف يستضيف الغريب ولا يمكنه من سلطة الادارة لشؤونه على عكس المدينة التي هي بالأساس تجمع أغراب.
تماما كما أن الريف لا يحتاج لماخور لتنفيس مكبوت الجسد، فالجسد في الريف يتمرن على على امتحان التوازن الذاتي، ويشبع حاجته النفسية للجنس بعمق وحميمية العلاقات الاهلية التي غالبا ما تنجح في تصريف فائض الجوع الجنسي بمنظومة تحكم ذاتي، جوهرها تجنب -وليس منع- الاعتداء فالشبيه لا يعتدي على شبهه وقد يعتدي على المغاير او الغريب، ولأن الريف موطن الاهلي والعائلي فالعاهرة لا مدخل لها للأقناع بمشروعية وجودها.
السياسي والعاهرة تجمعهم وحدة المجال المديني فمصدر الشرعية واحد تجنب عنف ممكن والحفاظ على توازن العمران المديني من ممكن العنف أو التحارب والخراب. لننتقل الى مجال المشروعية الوظيفية حيث نلاحظ بداية أن السياسي كما المومس تماما يستخدمان نفس استراتيجية العمل فالعاهرة من “كائن المظهر” فهي على موعد يومي مع ورشة التزين لأن الأهم والمهم هو ما يبدو عليها وما يبدو منها فهي عروس المدينة اليومي تتجمل أولا ثم تسعى في شوارعها وهنا تحديدا نجدها في حضن ماكيافيل وهو ينصح أميره بقوله “ليس مهما أن تكون مستقيما المهم أن تبدو دائما مستقيما” المهم عند ماكيافيل ليس من يكون السياسي بل المهم ما يبدو منه للجمهور فالسياسي تماما كما المومس يهرب دائما من سؤال “من أنا” الى سؤال “من أكون”. السياسي أو رجل المدينة الانيق الدائم هو صنو المومس العروس الدائم كلاهما يبدأ صباحا بموعد مع المرآة لممارسة طقوس النرجسية وضرورة التزين حفاظا على المظهر أو ما يبدو منهما أولا. بعد ورشة المظهر والزينة والتزين يتوحد الفاعلان على صراط استراتيجية الغواية (la stratégie de séduction).
السياسي والمومس كائنات الغواية والاغراء الدائم فالعاهرة تصبح يوميا على حملتها الانتخابية ولسان حالها يقول للمارة كل المارة “عزيزي أنا هنا من أجلك”.
وكذلك السياسي عندما يتوجه الى جمهوره قائلا “شعبي العزيز أنا هنا من أجلك”
كلاهما مهمته أن يعجب أولا وأن يقنع ثانيا وبين سلطة الزينة والخطاب يمارس كلاهما استراتيجية غواية دائمة نهايتها أن يستسلم الفرد في حالة العاهرة وأن يسلم الجمهور في حالة السياسي.
وصلنا في المقال الى 793 كلمة وليس مسموحا لي بأكثر من 800 على الأقصى أضطر للتوقف انضباطا لتعليمات إدارة التحليل وقد أعود إليه وقد لا أعود.
جريدة الرأي العام