تدوينات تونسية

في فوضى الديبلوماسية الحزبية 

نور الدين الختروشي
تونس مابعد الثورة شهدت حركية حزبية غير مسبوقة في تاريخها السياسي الحديث، فتأسست مئات الاحزاب في تطور انفجاري لمجتمع الحكم أحال على أهتمام التونسيين بالشأن العام والاستعداد للمشاركة في مستقبل البلاد، تماما كما أفصح عن “عمق فردانية التونسي” وتوجسه الدائم من العمل الجماعي، واستعصائه الذاتي على الانصهار في مجاميع العمل العام.
لسنا هنا بصدد ظاهرة الفردانية او الاحساس الحاد بالفردية عند التونسيين، فهي ظاهرة مركبة يتداخل فيها السيكولوجي بالتاريخي والاجتماعي، ولكن ما يهمنا هو التشديد على ان التطور الكمي المتسارع لمجتمع الاحزاب في تونس لم يعكس بالملموس تنوعا وثراءا في الاطروحات والرؤى والبدائل، بقدر ما عبر عن عمق وتجذر ثقافة الفرد او الفردانية التي تتعارض مع مبدأ الانصهار في جسم عضوي او قانوني يكون فيه الفرد جزء من كل يستمد منه مشروعية وجوده الاجتماعي والسياسي. ولعل هذا ما يفسر مسار السياحة الحزبية وتشقق الاحزاب وانقساماتها التي بدت للرأي العام “بدون معنى” سوى معنى تضخم الذاوت وغلبة الطموحات الشخصية على المصلحة العامة.
الاكيد انه من المبكر الان الخروج بخلاصات تقييمية صلبة على هامش تشكل مجتمع الاحزاب في تونس الجديدة، وما يمكن رصده الآن لا يتعدى الملاحظات على هامش اليوميات.
ومما استرعى انتباهنا حول ذلك “الهامش” هو بروز ما أصبح يعرف بالدبلوماسية الحزبية، والمقصود بها تحركات رموز الاحزاب في الساحة الدولية وتشبيك علاقاتها مع جهات رسمية وغير رسميه في المستوى الدولي.
لا أدري مدى صلابة مفهوم “الديبلوماسية الحزبية” ولكن كثافة تداول المصطلح يتيح لنا الاقرار بالمدلول الوظيفي المباشر للكلمة، والتي تعني سعي الاحزاب الى توسيع دائرة علاقاتها الخارجية ضمن سقف المصلحة الوطنية وبما لا يتعارض مع الديبلوماسية الرسمية وبما يعزز علاقات التعاون وتبادل المصالح مع محيطنا الاقليمي والدولي.
تبدو الديبلوماسية الحزبيه بهذا المقصود النبيل رافدا من روافد السياسة الرسمية للدولة وذراعا جديدا للتسويق لصورة البلاد وتعزيز مكانتها بين الامم وتعميق وتنويع مجالات التبادل والتعاون على المشترك مع المجتمع الدولي شأنها شأن الديبلوماسية الاقتصادية والثقافية والبلدية وغيرها، مما أصبح تقليدا وعرفا خاصة في الديمقراطيات التشاركية التي تتبادل فيها الدولة والمجتمع المدني الادوار والوظائف خدمة للمصالح العليا للشعوب والدول.
لعل من المهم التذكير هنا ان ما يعرف اليوم بالديبلوماسية الحزبية كانت إلى أمس قريب تمارس ضمن حواضن أقليمية ودولية ذات صبغة عضوية وعلى قاعدة ايديولوجية. كان هذا قبل ولادة النصاب الديمقراطي التشاركي وتحديدا في زمن الإستبداد واحتكار الدولة للفضاء العام وتأميم السلطة “للمصلحة العامة”. كانت الاحزاب “المطاردةً” في زمن دولة الزعيم والحزب الواحد مرتبطة عضويا بأطر دولية وغالبا في مجالها الايديولوجي “المافوق وطني” سواء كان أمميا كما هو حال الاحزاب اليسارية والليبرالية والاسلامية او قوميا بالنسبه للاحزاب القومية. ومع سقوط الاتحاد السوفياتي ومن بعده تجويف السرديات الايديولوجية الكبرى وتعميم النموذج الليبرالي دوليا، فقدت اغلب “المنظمات الحزبية الاممية” مشروعياتها الايديولوجيه والوظيفية بسقوط الانظمة الحاضنة لتلك التجمعات، وتغير الخارطة الدولية واندماجها في مجتمع دولي معولم من اهم معالمه انتقال رهانات السلطة والقوة للمجتمع المدني الدولي والمنظمات غير الحكومية، والتي عوضت بسرعة انتشارها وقوة تأثيرها دور الاحزاب في مرحلة ما يسمى بالحرب الباردة.
تسارع التحولات وكثافتها وسيولتها مع ثورة التواصل عززت ووسعت مساحات التواصل بين الشعوب والنخب في إطار حركية كونية شاملة وأفقية فجرت أقانيم التفكير السياسي التقليدي بولادة ما يسمى بالمواطنية الكونية وجوهرها وحدة الانتماء الثقافي ومنبته وحدة السوق والجغرافي وأساسه اختراق حدود الدولة / الامة.
كانت لهذه التحولات والمتغيرات المتسارعة تأثيرها العيني والحيني والمباشر على أداء الاحزاب الوطنية وعلاقاتها الخارجية، حيث تعمق الوعي لدى نخبها بضرورة تنشيط علاقاتها الخارجية بما يعزز مطمحها الدائم في ان تكون احزابا حاكمة، فالمقبولية الدولية أصبحت من شروط المرور الى مجتمع الحكم داخليا بالنظر الى حجم تشابك العلاقة بين الداخل والخارج وبحكم الوعي الحاد بتداعي الاقليمي والدولي على مآلات الحالة الوطنية. لعل زعيم حركة النهضة كان الاكثر احساسا بحجم التداخل بين الوطني والدولي وضرىرة المرور على “الصراط الدولي” للاقامة المريحة في مجتمع الحكم، فكان الاكثر نشاطا وحركة على محور ما يسمى بالديبلوماسية الحزبية. وقد أثار بحضوره الدولي الوازن حفيظة واحيانا “غيرة” منافسيه في الداخل فاندفع العديد من الرموز في هذا الاتجاه ولم تكن كل المبادرات في هذا الاطار منضبطة لضوابط “اليبلوماسية الحزبية” فتداخلت الاجندات الحزبية والمصالح القطاعية سواء باسم الاحزاب او الجمعيات مع مصالح أطراف أقليمية ودولية لم تكن دائما منسجمه مع الخيارات الرسمية للدولة ولا مستجيبة للحاجة الوطنية، بقدر ما عكست مصالحا حزبية وتقاطعت مع مصالح أطراف خارجية غير مطمئنة للتجربة التونسية الجديدة.
أفصحت تجربة الديبلوماسية الحزبية في سنوات ما بعد الثورة عن فوضى البدايات، وتحركت احيانا على تخوم الخيانة الوطنية والعمالة، ولكن مع اتساع دوائر الرقابة والشفافية سيتقلص في تقديرنا منسوب الفوضى في مجتمع الاحزاب وربما تستوي على سوق المصلحة الوطنية في المستقبل المنظور…
أو هذا ما نتمناه
جريدة الرأي العام

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock