أصفار اللغات في باكالوريا 2017: مهزلة بدون محاسبة
فجّرت نتائج امتحان بكالوريا 2017 جدلا عارما حول مهازل أعداد اللغات تحديدا وتثار التساؤلات حول الحلّ الممكن لهذه المعضلة إذ يعد حذق اللغات من أهم المكتسبات التي تفتح أبواب النجاح العلمي والمهني للمتعلم لكن بالمحصلة فان التلميذ التونسي ضعيف في اللغات. الملفت انه لو توقف الأمر عند اللغات الأجنبية لقلنا بعض الشرّ أهون من بعض فالضعف امتد للغة الأم التي يجد المتعلم صعوبة في حذقها. أما في اللغات الأجنبية فإن الوضع يوصف بالكارثي فهل يعقل أن يسند 7 ألاف صفر في مادة الفرنسية و 5 ألاف في الانجليزية بعد 13 سنة تعلم وأكثر من 10 سنوات دراسة للغة الفرنسية وسنوات للغة الانجليزية ؟ أن يحصل تلميذ على صفر فهذا يعني أنه لا يفهم اللغة بتاتا -قراءة وكتابة- إنها أزمة كبيرة تشهدها اللغات الحية في تونس لدرجة أن تلميذ باكالوريا غير قادر على كتابة “كلمتين” باللغات الأجنبية… بل وحتى بالعربية… غير قادر على التعبير عن فكرة بسيطة أو يدلي براي ما أو موضوع محدد… إلا بالعامية أو ربما بالإشارة. هذا الوضع الكارثي لا يتحمله التلميذ فقط لأنها ببساطة مسؤولية جماعية.
إن هذا الحصاد الهزيل نتاج غياب استراتيجية تعليمية واضحة. فالنظام التعليمي أنتج وللأسف كثير من الإطار الفاقد للمهارات البيداغوجية والتكوين الأكاديمي العميق حيث يكون “المكون” حصيلة لسنوات طويلة من الامتحانات الحينية على حساب التكوين البيداغوجي والأكاديمي المعمّق. كما إن هذه الظاهرة تعبّر عن إحدى وجوه العلل الناتجة عن تدنّي جودة الخدمات التربويّة وتعكس فشلا عميقا في الاستجابة للحاجات الآنيّة والمستقبليّة للمتعلمين. إن تراجع مستوى نسبة هامّة من المتعلمين يُعتبر نتيجة منطقيّة لعدد من العوامل يتّصل بعضها بالبيئة الاجتماعيّة وبعضها الآخر بالمنظومة التّعليميّة بينما تعود جملة من العوامل الأخرى إلى التّلميذ ذاته. فمنظومة القيم قد اختلّت في مجتمعنا بتراجع القيمة الرمزية للمعرفة وأهلها فيه وهو ما أثّر بصورة مباشرة على النّظرة إلى المؤسّسة التّربويّة باعتبارها الفضاء الذي تُكتَسَب فيه تلك المعرفة. وقد ازداد المشهد حرجا بما فتحته الثورة التّكنولوجيّة من قنوات غير مسبوقة لتحقيق هذه الغاية خارج الأطر المتعارف عليها. وفي المقابل لم تقدر مدرستنا على التّأقلم مع هذه المستجدّات بل ولم تستطع حتّى أن تحتفظ بنقاط قوّتها السّابقة: فالسّنة الدّراسيّة أصبحت مفكّكة بسبب ما يتخلّلها من عطل وفترات تقييم غير محكمة التّوزيع وتردد غير مسبوق في إدارتها ومناشير مسقطة وتسقط ما قبلها وعبث لا حدود له وهو ما اثر ويؤثّر سلبا على استمراريّة الدّروس ومن ثمّة على فاعليّتها. أما منظومة التّوجيه فهي مسطّحة وغير منصفة لا تستجيب لخصوصيّات المتعلّمين وإمكانيّاتهم وتتعسف على الكثير منهم ولا تستجيب لاحتياجات البلاد من المهارات والموارد والوسائل التّعليميّة ولم تعد تستجيب لمعايير الجودة التي ما انفكّت تتطوّر، وكثير من فضاءات التّعليم قد أصابها التّرهّل والسقوط المدوي والحياة الثّقافيّة المدرسيّة شبه منعدمة وان وجدت فهي غير منتجة ومبدعة. كلّ هذه المعطيات جعلت دافعيّة المتعلمين وإقبالهم على التّعلّم في أدنى مستوياتها وكذا منزلة المعرفة ومكان المعلم مما خلق حلقة مفرغة من “اللاّجودة” وانعدام الكفاءة.
وكل ما يذكر اليوم من علل لتدني المستوى واخص منها منظومة النجاح الآلي وإلغاء الرسوب وضرب التميز وسخاء الـ 25 بالمائة في نتائج الباكالوريا وعدم جدوى منظومة التقييم وسوء حوكمة القطاع وتفاقم ظاهرة الدروس الخصوصية في مناخ من الفوضى العارمة وتدهور المحيط الدراسي واستقالة الأولياء واللهث خلف النجاح مهما كان الثمن والرفع في نسبه كانت غاية التلميذ والولي والدولة من دون التأكد من واقع المستويات وحقيقة المعدلات. فأين نحن ماضون بهذه السياسة الخرقاء؟
حجم الهنات التي تعاني منها المنظومة التربوية كبيرة أهمها ضعف في التكوين وسوء البرمجة بالإضافة إلى الزمن المدرسي فقد بينت دراسة إن حوالي 50% من التلاميذ في تونس لا يمتلكون المعارف والمهارات والقيم والاتجاهات والسلوكيات اللازمة للنجاح في حياتهم كمتعلّمين فضلا عن تراجع قيمة المعرفة في مجتمعنا وفشل الإصلاحات المتتالية للمنظومة التربوية ما اثر سلبا على نظرة المتعلم للفعل التعليمي وللمعلم وللمؤسسة التربوية.
وزاد تدخّل الوسائط الرقمية والبصرية الجديدة وخاصّة غزو عالم الصورة للمجال المدرسي والحياة العامة ساهم عند ناشئتنا تحديدا في اختفاء الكتاب من حياة المتعلمين وفقدان المطالعة لقيمتها الاعتبارية حتى غدا مسك المتعلم لقصة أو لكتاب ظاهرة مستغربة بحد ذاتها ومجلبة للتندر والسخرية….
تعد اللغات المدخل الأساسي للإصلاح باعتبارها الحاضنة الأولى وأداة الانفتاح على الآخر وامتلاكها يمكن المتعلم من فهم كافة العلوم.
لكن التمكن من اللغات في تونس في انحدار مستمرّ للأسف ويسير بسرعة فائقة نحو الخلف. ويمكننا معاينة هذا الأمر بجلاء لدى التلاميذ وخريجي الجامعات والذين يحمل الكثيرون منهم شهادات علميّة ولكنّهم عاجزون عن التحدّث بلغة سليمة بل يكون تعبيرهم مزيجا من هذا ومن ذلك أمّا في الكتابة فإنّه يصبح من باب الهزل والتندّر أن نطلب منهم كتابة خمسة أو ستّة أسطر دون أخطاء… كيف نخجل عندما يتندر البعض ولو من قبيل المداعبة على حاملي الشهادات الجدد عندما نعلم أنّ مهندسا لا يقدر على تحرير مطلب وطبيبا لا يحسن القراءة ومدير إدارة يعجز عن إعداد تقرير ورئيس مصلحة لا يتقن الردّ على مراسلاته. ونتج عن ذلك أن نجد عددا من حاملي شهادات ممن التحق بالتدريس مؤخرا غير قادرين على حلّ مسائل رياضيّة لمرحلة تلاميذ السنة السادسة ابتدائي وأساتذة لا يحسنون الكتابة ونطق لغة سليمة والتي بواسطتها يتواصلون مع منظوريهم فيميلون إلى اعتماد العامية تجنبا للحرج ومعلّمون يجهلون القراءة الصحيحة والتعابير السليمة. وفي ظل افتقاد إطار كفء ومتشبع بروح العطاء والبذل ونسخ المعارف وتقديس “الأعداد” وتضخيمها مقابل خلق شخصية غير مفكرة وغير مبدعة وهنا تكمن المعضلة.
إن تدنّي مستوى التلاميذ في بلادنا يعد ظاهرة وطنيّة تؤكّدها التقارير والدراسات وهي تعبّر عن نقائص متوارثة عن المنظومة التربوية في جميع مستوياتها المعرفية والبيداغوجية. كما إن الاخلالات متعددة منها ضعف الإمكانيات والأدوات التعليمية والانضباط والتسيير إلى جانب عدة عوامل أخرى متراكمة لعل أهمها الوضع العام للبلاد الذي ألقى بظلاله على المؤسسة التربوية. فحالة الإحباط التي يعيشها خريجو الجامعات بسبب انسداد أفق التشغيل لا تشجع التلاميذ على الاجتهاد في العلم الذي تحول في عقلية الولي والتلميذ إلى مجرد وسيلة للحصول على عمل لا على شهادة لا معنى لها دون التفكير في «البناء العقلي» للشخصية.. لقد طغت على التعليم الصبغة التجارية فالعدد والنجاح هو هدف التلميذ والولي وليس تطوير المهارات. لذلك احتج التلاميذ مثلا على إلغاء الأسبوع المغلق لان علاقة التلميذ بالمعرفة مناسبتية تقف عند الامتحانات وتنتهي هناك.
يعود تراجع مستوى التلميذ في تقديري أيضا إلى منظومة التدريس التي تعتمد ضخ كميات هائلة من المعلومات لا يمكن لأذهان المتعلمين استيعابها لا من ناحية الكم ولا من ناحية الفهم. كما كانت وما تزال مضيعة كبيرة لزمن التعلم وأدخلت اضطرابا في مستوى الفهم بسبب تدريس مواد علمية بالعربية في مرحلة الإعدادي هي نفسها بالفرنسية في مرحلة الثانوي.
أما السياسات التعليمية فلا تزال متعثرة فإلى اليوم يتحدّث من يعمل على مشروع الإصلاح التربوي عن “الحقّ في التعليم الجيّد” في حين أنّ الدول المتقدّمة تتحدّث منذ سنوات طويلة عن «الحقّ في النجاح» باعتباره حقّا مقدسا على الدولة أن تضمنه بشتّى الوسائل.
ونتيجة لكل ذلك لم تحقق تونس سوى النتائج ضعيفة جدّا في الامتحانات الدوليّة في أكثر من مناسبة. ففي سنة 2003 عندما شاركت بلادنا في هذه الامتحانات التي غطّت ثلاث مواد أساسيّة: القراءة باللغة العربية والعلوم والرياضيات التي نظمتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنميّة إلى جانب 40 دولة فانها لم تتحصل إلا على المرتبة الأخيرة من حيث قدرة أبنائنا وبناتنا على القراءة باللغة العربيّة وتمكّنهم من العلوم والمرتبة 38 من 40 من حيث قدرتهم على حل المسائل الحسابيّة.
يتجاوز تدنّي المستوى التعليمي في تونس مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي ليتنقل بالعبور المتيسر الى مرحلة التعليم الجامعي والنتيجة هو ان نسبة كبيرة من طلبة الجامعات ينهون تعليمهم الجامعي ويلتحقون بسوق العمل دون أن يتقنوا اللغة العربيّة أو اللغات الأجنبيّة، وهو ما يمثّل عائقا كبيرا أمام قدرتهم على التواصل الشفوي والإنتاج الكتابي والبحث العلمي. مما يعيق قدرتهم على استيعاب المعارف والمهارات التي تضمن قدرتهم على المنافسة إقليميّا ودوليّا وبالتالي عدم قدرة تونس على تجاوز ضعفها التنموي الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بضعف مواردها البشريّة. فما العمل إذن؟ وكيف السبيل إلى تجاوز هذا الواقع الخرب؟
لتحسين مستوى التلاميذ لا بد من إصلاح المنظومة التربوية في اتجاه بناء فكري سليم ودفع عقل المتعلم ومواهبه للتفكير والإبداع وتطوير إمكانياته وقدراته كما إن التعجيل بإصلاح الزمن المدرسي من شأنه أن يتيح المجال للتلميذ لتوسيع معارفه كما إن من واجب المدرسة ان لا تضمن للمتعلم الدروس فحسب بل النجاح من خلال تمكينه من دروس دعم حسب حاجته لان قدرة المتعلمين على الاستيعاب غير متساوية والتدخل المبكر في علاج صعوبات التعلم حتى لا تتراكم وتتحول مسؤولية التعلم إلى برنامج مجتمعي تشارك فيه كل أطراف المجتمع لتوفير كل احتياجات المربي والمدرسة ومحاسبتهم على المستوى والنتائج.. إن الحل هو عدم تكرار الأخطاء التي تم ارتكابها في السابق والمتمثلة في الحلول «المسكنة» والمتسرعة. إذ يجب تفادي التعامل مع مشروع الإصلاح فقط من الناحية النظرية والتقنية البحتة دون ربطها بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فالمستوى التعليمي يتطلب مراجعة منظومة التقييم وتأهيل المدرسين وتحسين محيط المدرسة ومراجعة الزمن المدرسي وإدارة تشاركية للقطاع وتحمل الولي والمربي لمسؤولياته ووعي التلميذ بواجباته. لكنه من الضروري أن يتم في البداية الاتفاق وطنيا على معاني التربية والتعليم والتكوين من حيث المضامين والأهداف حتى لا ننحرف بها والعمل بالتوازي مع تقليص الهوة الاقتصادية والاجتماعية بين الجهات لتصبح المنظومة فعليا منصفة وناجعة.