مقالات

ناجي العلي: حياة قتيل الريشة والحقيقة ومدرسة في الرسم “المناضل”

لطفي الراجحي
“اللي بدو يكتب عن فلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي”، مقولة رددها ناجي العلي ورحل معها بلا عودة.
واليوم تمر الذكرى الـ30 لشهيد الريشة والحقيقة الفنان ناجي العلي الذي اغتيل بعد أن أنتج أربعين ألف قطعة سلاح خلال مسيرته الفنية التي استمرت نحو 30 سنة!!. كيف لا والفنّ عنده هو البندقيّة والحبرُ رصاصها.
كان الموت يترصده في كل حين لكنه كان يخشاه لانه يتحدى قاتليه. الم يكن يردد كلماته الشهيرة على الملا عندما تصله التهديدات بالتصفية الجسدية “يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع رجلي”. لكن رصاصات الجاني كانت اسرع الى راس الشهيد واسقطته مضرجا بدمائه ليدخل بعدها في غيبوبة استمرت حتى توفي يوم 29 اوت 1987 ومن سخرية القدر أن يموت العلي بالسلاح الذي طالما هاجمه، ففي حين قتل معظم رفاقه في تفجيرات، على غرار كنفاني وغيره، قتل العلي بكاتم للصوت.
ناجي العلي اسم مقترن بالمأساة الفلسطينية في حياته وبالحسرة عقب وفاته فالشهيد التقط الحزن من عيون أهله وأصحابه منذ أن بدا الوعي عنده يتشكل ويتعمق والدمامل في النفس تتكون وتتضخم والحنين للوطن يكبر في مخيم عين الحلوة عند إقامته به وهو لاجئ حينها بدأت روح الفنان تتحرك في أعماقه. وشعر بحاجة كبيرة إلى إطلاق ما تجمع في روحه من أحزان وقهر بتعابير غاضبة رسمها على جدران المخيم قبل أن يكتشفها غسان كنفاني.
ناجي العلي الاستثناء الذي فقدته حركة الرسم الساخر الهادف يعد رائد ملحمة فنيّة نادرة تتخذ الكاريكاتير سبيلاً إلى مساءلة السائد وكشف تورّماته وحدّة كدماته.
الفنّ هو البندقيّة والحبرُ رصاصها وعليه راح يخوض حربَه شاهدا وشهيدا ووجّه رصاصات وريثه الرمزيّ “حنظله” بيد صارمة رغم كونها تبدو مكبلة إلى كلّ الأنظمة العربية وإلى المساومين بحُرمة الأرض وقداسة التاريخ فحارب هؤلاء جميعا دون خوف من تهديدهم أو نكوص أمام وعيدهم ودفع الثمن.
إن إبداعه الراقي وجرأته النادرة ودرامية مقتله كلها خلقت منه أسطورة فنية في زمن بات الرموز فيه قلة. الم يقل عنه محمود درويش انه “لم يكن سهلا أن تناقش ناجي العلي الذي يقول: لا أفهم هذه المناورات لا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية” ربما يكون ذلك هو العنوان الأنسب للوحاته مؤكدا أن البندقية فقط، هي الوسيلة الوحيدة لاستعادة الوطن المسروق. اليوم، وبعد مرور العقد الثالث على رحيله، ما زال حنظله يكبُر في بعض الوطن المقاوم حاملا لاءات ناجي العلي وما زال يدير ظهره وكأنه يقول “هذه فلسطين التي أقف على حدودها وما دمتم ترون ظهري إذن فأنتم خارجها وخارج التاريخ”.
وحنظله هو مصدر الحنظل لان طعمه طعم النباتٌ البريٌّ شديد المرارة ولذا كان الرسم مُرّا يعكس واقعا اشد مرارة وقسوة على الشاربين وفي طعم العلقم فمن يتحمل هضمه ويتحمل مرارته؟
إن حنظله الذي يبدو عادة في لوحات ناجي العلي على هامش الصورة لكن له دوره مركزي وأساسي كرمز للمرارة القاتلة فالبداية قدمه كطفل فلسطيني، لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني وإنساني وحاملا لقضية… ناجي العلي استطاع أن يحوّل حنظله إلى رمز من رموز فلسطين إلى درجة إن الكثير لا يعرفون فلسطين إلا من خلال حنظله، محاط بقدسيّة الفدائي الملثم. يدير ظهره ويعقد ذراعيه خلف ظهره بطريقة تثير الاستغراب، ولما سئل العلي عن ذلك أجاب بأنه يدير وجهه لفلسطين، ولما كان الناس يديرون ظهورهم لفلسطين فإنهم يرونه مديرًا ظهره لهم ولكنه لو كبر وعاصر ألام الوطن السليب لربما كان قد انتحر أو أصابه اليأس إذ لو عاصر أوسلو وما نتج عنها ولو واكب حالة الانقسام والتشرذم التي تعيشها الأمة ومشاريع دسترة التطبيع وفتح السفارات والتنسيق الامني والاستخباراتي وتبادل الخبرات والتنقل الحر للمنتجات.. فماذا عساه فاعل؟
آه يا حنظله… لقد أراحوك من عذاباتك أولئك حين قتلوك… حتى لا ترى المهانة التي تعيشها قضيتك… أراحوك أيها الملهم المقاوم برصاص قناص غادر عميل. أراحوك بعد أن صارت لوحاتك مصدر انزعاج لدرجة أن الصحف التي عملت بها في الكويت ولبنان كانت تمارس عليها صنوفا شتى من الضغوط حتى تتوقف عن إطلاق قذائف ريشتك التي لا تهدأ حتى لا تصيبهم شضاياها.
في ذهن كل مقاوم نجا ناجي… ناجي طالما إرتبطت فكرته بدلالة اسمه نيابة عنه فنجا الكاريكاتير من الاغتيال والصمت، وارتفعت فكرته وعلا نهجه فولج قلوب الناس وأصبح ناجي العلي هو الاسم الحركي لمن يحمل سلاحه وفكره ولاءاته..
إن من أنهى حياة ناجي العلي يمكن أن يكون جيدا في القتل.. وفي منع منافذ الشمس والهواء لكن أصوات ضمائر من جندوه تقول: خجلا من أنفسنا لان ناجي العلي لم يغب وان مات، فشل من خطط لاغتياله أملا في قطع الحبل السري ما بينه وبين مريديه فتكاثر (حنظله) وتحول حناظل ودخل عصرا آخر بكل سلاسة، فهو المنتشر اليوم والأكثر حفاوة بين الناس حين لا يعلم أحد أو لا يهتم أحد لمصير جلاديه البائس في زوايا معتمة وبشعة من التاريخ.
حنظله لم يمت… حنظله اليوم كما الأمس يرصد الحلم والغد ويستمر كما تستمر القضية لانك يا حنظله قضية ولانك يا حنظله محارب، فالي روحك الطاهرة صدحت حنجرة الشاعر احمد مطر بكلمة وفاء يا رمز الإباء :
عفواً؛ فإني إن رثيت فإنما أرثي بفاتحة الكتاب رثائي
عفواً؛ فإني ميت يا أيها الموتى؛ وناجي آخر الأحياء
ناجي العلي لقد نجوت بقدرة من عارنا، وعلوت للعلياء
أصعد؛ فموطنك السماء؛ وخلنا في الأرض إن الأرض للجبناء
ممن يرصون الصكوك بزحفهم ويناضلون براية بيضاء
ويسافحون قضية من صلبهم ويصافحون عداوة الأعداء
أهل الكروش القابضين على القروش من العروش لقتل كل فدائي
الهاربين من الخنادق والبنادق للفنادق في حمى العملاء
القافزين من اليسار إلى اليمين إلى اليسار إلى اليمين كقفزة الحرباء
اصعد؛ فهذي الأرض بيت دعارة فيها البقاء معلق ببغاء
من لم يمت بالسيف مات بطلقة من عاش فينا عيشة الشرفاء
ماذا يضيرك أن تفارق أمة ليست سوى خطأ من الأخطاء
فمدامع تبكيك لو هي أدركت لبكت على حدقاتها العمياء
ومطابع ترثيك لو هي أنصفت لرثت صحافة أهلها الأجراء
تلك التي فتحت لنعيك صدرها وتفننت بروائع الإنشاء
لكنها لم تمتلك شرفاً لكي ترضى بنشر رسومك العذراء
ونعتك من قبل الممات؛وأغلقت باب الرجاء بأوجه القراء
ولمن يرصون السلاح؛ وحربهم حب؛ وهم في خدمةالأعداء؟
وبأي أرض يحكمون وأرضنا لم يتركوا منها سوى الأسماء؟
وبأي شعب يحكمون، وشعبنا متشعب بالقتل والإقصاء؟
يحيا غريب الدار في أوطانه ومطارداً بمواطن الغرباء
لكنما يبقى الكلام محرراً إن دار فوق الألسن الخرساء
ويظل إطلاق العويل محللاً ما لم يمس بحرمة الخلفاء
القاتل المأجور وجه أسود يخفي مئات الأوجه الصفراء
ولناقد “بالنقد” يذبح ربه ويبايع الشيطان بالإفتاء
ولشاعر يكتظ من عسل النعيم على حساب مرارة البؤساء
ويجر عصمته لأبواب الخنا ملفوفة بقصيدة عصماء
ولثائر يرنو إلى الحرية الحمراء عبر الليلة الحمراء
ويعوم في “عرق” النضال ويحتسي أنخابه في صحة الأشلاء
ويكف عن ضغط الزناد مخافة من عجز إصبعه لدى “الإمضاء”
وسعت أساطيل الغزاة بلاده لكنها ضاقت على الآراء
الكل مشترك بقتلك؛ إنما نابت يد الجاني عن الشركاء
ناجي، تحجرت الدموع بمحجري وحشا نزيف النار لي أحشائي
لما هويت متحد الهوى وهويت فيك موزع الأهواء
ففجيعتي بك أنني تحت الثرى روحي؛ ومن فوق الثرى أعضائي
أنا يا أنا بك ميت حي ومحترق أعد النار للإطفاء
برأت من ذنب الرثاء قريحتي وعصمت شيطاني عن الإيحاء
وحلفت ألا أبتديك مودعاً حتى أهيئ موعداً للقاء.
رحم الله الشهيد و كل الشهداء.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock