أحمد القاري
دروس لسانية في القطار
دروس السلوك اللغوي الوطني منتشرة في كل شيء في أوربا.
يحتاج الأمر قليلا من الانتباه من الزوار ومن جاليتنا هناك ليفيدونا بالكثير. وقد تلقيت دروسا بليغة خلال رحلتين بالقطار بين باريس وفرانكفورت، ثم برلين إلى وارسو عاصمة بولونيا.
في بلداننا نأخذ توفير المعلومات في وسائل النقل العامة بلغتين باعتباره شيئا مسلما به. ولا نبالي بترتيب اللغات. ولا نعتبر إهمال اللغات الوطنية مقابل لغات “السواح” أمرا غريبا.
في البلدان الأوربية يحسبون الأمر بدقة ولا يتركون مجالا للصدفة.
في القطار السريع من باريس إلى فرانكفورت كانت الرسائل الصوتية التي تخبر الركاب بمعلومات الرحلة والخدمات والمحطات المقبلة تقدم بالفرنسية أولا ثم الألمانية ثانيا من باريس حتى حدود ألمانيا.
وبمجرد اجتياز القطار خط الحدود المفتوح، وهو لم يتوقف عنده على ما أذكر انقلب ترتيب لغة الرسائل. فأصبحت الألمانية تسبق الفرنسية برغم أن نفس الشخص ظل يبثها باللغتين طوال رحلة الساعات الخمس.
ما هذا الانتباه المهووس عند هؤلاء الأوربيين المتحدين للتفاصيل؟ ما أهمية ترتيب اللغات؟ بالنسبة لنا في بلاد المغرب الكبير لا أهمية للأمر. هل نحن على صواب؟ علينا البحث!
بعد نهاية معرض الكتاب سافرت من فرنكفورت إلى لايبزيج ثم منها إلى برلين. وبعدها بأيام كنت على رصيف محطة برلين أنتظر موعد القطار إلى وارسو. حل وقت الرحلة ولم يظهر القطار ولولا وجود سيدة ألمانية مسافرة على نفس القطار نبهتني إلى أن رسالة صوتية تقول إن الرحلة ستنطلق بعد مدة قصيرة من محطة أخرى لفوت الرحلة. تم بث الرسالة بالألمانية فقط.
في القطار من برلين إلى وارسو كان السلوك اللغوي أكثر عملية. لغة الرسائل الصوتية كانت الألمانية وحدها حتى حدود بولونيا ثم تحولت إلى البولونية وحدها من الحدود إلى وارسو. وبالنسبة لي فكلاهما رطانة غير مفهومة.
سألت ركابا عن هذه المسألة فقالوا إنها شيء اعتيادي ألفوه. على الألماني أن يتحمل في بلاد البولونيين كما أن على البولوني أن يتحمل في بلاد الألمان. السيادة للغة الأرض.
نعرف عن أوربا الحدود المفتوحة والاتحاد والتعاون ولكن لا ندرك أن كل ذلك يتم في إطار تشدد في حماية الهوية والرموز الثقافية لكل بلد وإقليم. وهو تشدد يصل في رأيي حد التعصب.
وفي الغالب فإن السلوك اللغوي في الخدمات العامة ولوحات الإرشاد في الشوارع والمطبوعات الموجهة للجمهور والمعلومات على المنتجات ولافتات المحلات ولغة وسائل الإعلام ولغة التعليم العام والخاص ليست متروكة للصدفة. فهي من المجالات التي يتدخل فيها التشريع وبطريقة مفصلة لحماية المستهلك والتلميذ والمواطن ولحماية الهوية المحلية من أي تهديد لها أو استهانة بها.
نفس الشيء يلاحظ في سلوك طواقم الطائرات. فلغة بلد الإنطلاق وبلد الوجهة حاضرة دائما في توجيهات الأمان وتواصل المضيفين مع الركاب.
والاستثناء الذي رأيته يوجد عند طواقم الطائرات المغاربية الذين يرى كثير منهم أن الفرنسية هي لغة الأجواء وهي المناسبة لعالم الطيران الراقي بعيدا عن عربية البدو. فتجد المضيفة تسألك “تي فو بواغ كيلك شوز؟” و أجيب عادة “مَ”. فتسأل المضيفة “دو لو؟”
بالله عليكم أيهما أوضح “مَ” أو “دو لو”؟
#لغات_حية 23
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.