تدوينات عربية

أسفاري واللغات الحية (21)

أحمد القاري
الإنتماء اللغوي أولا
نزلت في فندق وسط فرانكفورت في الليلة السابقة للمعرض بسعر 35 يورو. في اليوم الموالي كان السعر أربعة أضعاف بسبب كثرة إقبال الناس على المعرض فاستعنت بخدمة توفرها إدارة المعرض على موقعها لتدبير أسرة مبيت لدى أسر تكري غرفا من منازلها للزوار.
حصلت على غرفة عند أسرة في ضاحية المدينة، قريبة من إحدى محطات القطار مقابل 45 يورو لليلة.
حجم الإقبال على المعرض مدهش. وذلك رغم أنه مخصص للمحترفين، ولا تفتح الفرصة للعامة بمن فيهم الطلبة لزيارته إلا في اليوم أو اليومين الأخيرين.
يزور المعرض مؤلفون ورسامون وناشرون ومترجمون وموزعون ومشتغلون في الطباعة والمكتبات العامة وبائعو كتب وصحافة من كل العالم.
كانت الهند ضيف الشرف لسنة 2006. وكان حضورها قويا أضفى على المعرض رونقا هنديا.
لاحظت بالونات كبيرة في ساحة المعرض تحمل حروفا من الخطوط المستخدمة في الهند. وكان فيها حروف عربية. فالخط العربي من بين الخطوط المستخدمة في بعض ولايات الهند. وهكذا في هذا الخط موجود في إفريقيا والجزيرة العربية والسند والهند وفارس والصين.
الخط العربي الجميل الذي تفننت شعوب العالم المستخدمة له في إبرازه والاحتفال به بكل طريقة ممكنة. في المعمار والمخطوطات واللافتات والنقوش.
بينما تجد في شمال إفريقيا من يتبرأ منه ويستبعده خوفا من أن ينتقص من “فخامة” المكان و”جودة” المنتجات ولكي لا يشوش على حضور الحرف اللاتيني!
خلال الجولة في قاعات المعرض سأجد أن العالم مقسم لغويا. وأن هذا التقسيم يتحدى “السيادة الوطنية” ويتجاوزها.
ففي قاعة اللغة الإنجليزية يوجد جناح كندا الإنجليزية. بينما جناح كيبيك الفرنسي يوجد في قاعة اللغة الفرنسية.
وبلجيكا مقسمة بين الوالون الذين جعلوا جناحهم في القاعة الفرنسية والفلامانيين الذين انحازوا إلى هولندا قريبا من القاعات الألمانية.
توقفت بشكل خاص عند الحالتين البلجيكية والكندية. كيف تغلب الانتماء اللغوي على ضرورات الوحدة الوطنية؟ أم أنه ليس في الأمر تناقض أصلا؟
بلجيكا دولة فدرالية مقسمة حسب خطوط اللغة. فبها إقليم الفلاميين الناطق باللغة الهولندية، وإقليم والونيا الفرنسي، وإقليم ألماني صغير به 77 ألف من السكان. والعاصمة ثنائية اللغة والتي يتبع سكانها أحد الإقليمين الفلامي أوالوالوني حسب اللغة.
لكل إقليم برلمان وحكومة ونظام خاص. وللعاصمة بروكسيل برلمان وحكومة. وفوق ذلك حكومة فدرالية. الحكومات المحلية تشتغل بلغاتها دون اعتماد اللغات الأخرى ولو على سبيل المجاملة.
موقع برلمان كل من الوالون والفلاميين متوفر باللغة الفرنسية أو الهولندية فقط. هم عمليون للغاية دون أن يجرؤ أحد منا على تسمية ذلك بأنه تعصب زائد وانغلاق قروسطي.
كنت أتسلى بأن أسأل جناح الكيبيك إن كانت لديهم كتب بالإنجليزية وجناح كندا الإنجليزية إن كانت لديهم كتب بالفرنسية. وعلى نحو أكثر جدية كنت أسأل عن تجاربهم فإذا هم مقتنعون بأن الهوية اللغوية ليست موضوع مفاصلة أو تنازلات.
كان هناك جناح لكاطالونيا وغاليسيا والباسك. وفي كل جناح كتب بلغته. وقد سألت بعض القائمين على تلك الأجنحة عن جدوى النشر تجاريا بلغات لا يتحدثها إلا عدد قليل من الأشخاص فشرحوا أن النشر عندهم يعتمد على دعم الحكومات المحلية بالدرجة الأولى.
كانت معظم الأجنحة تحتوي كتبا بلغات بلدانها. وكان النقاش والتداول بين محترفي النشر يدور حول صفقات الترجمة وحقوق النشر.
الحضور المغربي كان لدور نشر صغيرة أغلب منشوراتها بالفرنسية. وهي حضرت ضمن دور نشر من بلدان يصفها المعرض بأن “صناعة الكتاب فيها غير مهيكلة” ولذلك يستضيفها المعرض على حسابه.
كانت عبارة “صناعة كتاب غير مهيكلة” تختصر الكثير. عندنا وزارة ثقافة لها ميزانية ومندوبيات وعندنا دور نشر شامخة بأنوفها للسماء وننظم معرض كتاب سنوي في الدار البيضاء ومع ذلك تبقى صناعة الكتاب عندنا غير مهيكلة. وستظل كذلك ما دام هذا قرار الدولة المركزية وقرار الحكم المحلي. حيث يتراجع الكتاب والترجمة والنشر والمكتبات العامة إلى ذيل الاهتمامات مقابل إحياء مهرجانات موسيقية و”فنية” من كل نوع. وهي مهرجانات ترفيهية لا تجرؤ الدول الديمقراطية على أن تنوب فيها عن محترفي صناعة الترفيه. فهم ليسوا في حاجة للدعم من المال العام.
#لغات_حية 21

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock