البحث عن ضمير عربي يعتنق الإسلام ويضمن الحريات
لقد علمت الشعوب من زمن بعيد أنها لن تعتمد على الأنظمة التي ترعاها، إذ انقطعت الآمال من حلم الوحدة العربية بتشتت شعاراتهم السياسية والعسكرية، كثرة مطامعها وضعف مؤسسات الدولة المستقلة حديثا من براثن الاستعمار الغربي، فتحول الحلم سرابا.
وشاءت الأقدار أن يعلن العالم تاريخ 14 جانفي 2011 يوما حققت فيه دولة صغيرة معجزة كبيرة، شعب أعزل ينجح في قلب الموازين التي قامت عليها الأنظمة الديكتاتورية العربية لأكثر من 50 سنة، وأطاحت برئيس الجمهورية آنذاك.
مضت على تلك الانتفاضة الحدث ست سنوات بين سمان وعجاف، ولكنها لم تعد بتونس إلى الوراء، لقد استطاع الشعب التونسي رغم شح الموارد المادية للدولة وصعوبة التأقلم مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية إلى إرساء العديد من المكتسبات، أهمها إرساء العدالة الانتقالية المبنية أساسا على الاعتراف بضحايا الاستبداد والسعي نحو تعويضهم ماديا ومعنويا، إقرار ضرورة المحاسبة والمصالحة وإقرار الدولة المدنية المبنية على مؤسسات ردعية تحترم القانون وتحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية، كما نجح الشعب المحرر من أصوليات الديكتاتورية الحزبية والتصحر العقائدي والحرياتي في استعادة هويته الإسلامية التي تخلى عنها غصبا لا طوعا، فاعتنق مبدأ التنوع الحزبي كاختيار واضح لتوجهاته السياسية الحديثة من ناحية وعمد من ناحية أخرى إلى التعويض عن ذلك الفراغ الروحي الذي عاشه عبر الدفع بضرورة تبني قراءة معتدلة لتعاليم ديننا الإسلامي الحنيف والسعي في نفس الوقت إلى منع الانحرافات الإيديولوجية التي قد تضر بأمن المجتمع والدولة المدنية، وتجسدت تلك الاختيارات المبدئية في الفصل الثاني من الدستور التونسي الذي جاء في الفصل الثاني من بابه الأول المتعلق بالمبادئ العامة، حيث اعتبر أن “تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون…”.
ست سنوات والشعوب العربية التي استعادت أمل الأمة العربية، تبحث عن ضمير عربي أضاعت معالمه لعقود من الاستبداد والقمع، ضمير يتغنى بالوحدة العربية والصحوة الإسلامية في ظل دول مدنية تعمل على ضمان خصوصية كل شعب وتحترم التنوع وتسعى نحو تحقيق مصلحة عربية موحدة.
لقد وجدت الشعوب العربية ضالتهم في الثورة التونسية، حيث مثلت لديهم صحوة عربية أشعلت فتيل الثورات الشعبية الخفية والتي عجزت عن تغيير الأنظمة الديكتاتورية العسكرية والملكية المتمركزة في معظم الدول العربية، رغم تعدد المحاولات، لم يحالفها الحظ في تحقيق أهدافها رغم الدعم الداخلي والأجنبي لها وبقيت تلك الأنظمة تحكم بالحديد والنار إلى يومنا هذا.
ومن تونس جاءت المعجزة، لقد أصبح حلم الإطاحة بالديكتاتورية أمرا ممكنا، لقد تحولت ثورة الياسمين إلى بوابة أمنت نجاح العديد من الثورات وفي وقت قياسي، اندلعت الثورة المصرية بعد شهر واحد من قيام الثورة التونسية وتم الإطاحة بنظام مبارك في شهر فيفري 2011 وتتالت الثورات الشعبية، فجاءت ثورة اليمن وثورة ليبيا وأخيرا ثورة سوريا.
لا يسعنا إذا سوى الإقرار بأن سنة 2011 هي دون منازع، سنة الاستفاقة غير المسبوقة للدول العربية المقيدة بمطرقة الظلم وسندان الفقر، وكلها أمل في مسك زمام الأمور من منطلق إيديولوجي يحقق الديمقراطية ويضمن الكرامة الإنسانية. وها نحن نجدد العهد بذلك التفوق الاستثنائي على قوانين تضمن هيمنة القوي مقابل رضوخ الضعيف، ورغم المطبات التي اعترضت طريق الثورة التونسية والمتمثلة في التجاذبات الحزبية وتناحر المصالح، وتأثيرها السلبي على أهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية في الدولة، ورغم المخاوف من التهديد الإرهابي الذي استفحل في بلادنا لسنتين متتاليتين في 2013 و2014، تمكنت الدولة التونسية من التصدي لذلك الخطر الإرهابي المهدد لتواجد الثورة ولكنها عجزت عن منع تصدير الإرهاب إلى الخارج، عبر ما يعرف بظاهرة تسفير الشباب التونسي إلى سوريا، رغم المحاولات الحثيثة لمنع جرائم تهريب الأشخاص خارج البلاد التونسية.
لقد شهد العالم مؤخرا تحولات إقليمية ساهمت في إنهاء الحرب في سوريا، ورغم حالة الارتياح التي عرفتها المنطقة العربية وخاصة منها الدولة التونسية، تقف الدولة التونسية اليوم أمام معضلة جديدة أفرزتها الحرب السورية والتي تتعلق بعودة المقاتلين التونسيين من سوريا بعد فرارهم من الأرض السورية عبر الحدود التركية، في انتظار العودة إلى الأرض التونسية، ولن تكون عودتهم حسب المنطق، حدثا معلنا بل سيعتمدون خوفا من المساءلة القانونية، وسائل لتحقيق مآربهم إما عبر الولوج إلى التراب التونسي من خلال المنافذ الحدودية السرية أو عبر الحصول على وثائق سفر مزيفة لتجاوز الأجهزة الأمنية الحدودية.
وفي المقابل، تأتينا هذه الأزمة والدولة التونسية تسعى إلى استعادة عافيتها، عبر الشروع في تحريك قطار التنمية الاقتصادية من خلال إنجاح مؤتمر الاستثمار الذي نظمته الدولة سنة 2016، وتأمين عودة القطاع السياحي إلى الحياة بعد سنوات من الركود.
رغم كل تلك التحديات التي واجهت مجتمعنا ودولتنا، وبما أننا اخترنا نمطا سياسيا مبنيا على دولة القانون والمؤسسات التي تستمد وجودها ونشاطها من خيارات مبدئية تشرعه الحريات العامة والحقوق الفردية، أدعوا القائمين على الثورة الوحيدة التي أدهشت الرأي العام الدولي وبعثت الأمل في الأمة العربية لاحترام المبادئ التي عملوا على تجسيدها في دستور الدولة المتربع على قمة الهرم القانوني في بلادنا، ولاسيما ما جاء في فصله الخامس والعشرين الذي جاء فيه صراحة “يحجر سحب الجنسية التونسية من أي مواطن أو تغريبه أو تسليمه أو منعه من العودة إلى الوطن”.
فلا يسعني سوى دعوة كل الأطياف السياسية والاجتماعية إلى رفض الانقلاب على مسار تأسيسي مبدئي كلف الدولة والشعب تضحيات بشرية واقتصادية ومالية رغم ما قد يمثله عودة المقاتلين من خطر محتمل.