تدوينات تونسية

من قال إن الرجال لا يبكون ؟

نزر الدين العويديدي
كثيرا ما كان يعتريني قلق غامض لا أعرف له سببا.. كثيرا ما كنت أشعر بحزن عميق لا أجد له مبررا ولا سببا تطمئن نفسي إليه وتسكن.. وكثيرا ما كان يعتريني حنين لشيء ما لا أدري ما هو.. شيء غامض لا أدري ما يكون، يحفر في القلب أخاديد ويشبعني أوجاعا أحسها، ولكن لا تواتيني فأمسكها وأعرف ما هي وما تكون.. فأردد مع فيروز بحزن: أنا عندي حنين ما بعرف لمين.
أيام غربتي الطويلة كانت مشاعر القلق والحزن والحنين الغامض لشيء أو شخص مجهول تسيطر علي أياما، فتضيق نفسي وتسود الدنيا في وجهي.. أكتب أحيانا لعلي أجد في الكلمات بحرا من المعنى أصطاد من درّه ما به أنتصر على ذلك الوجع الخفي.. أجري هربا من نفسي فلا أجد منها مفرا ولا مهربا.. أمارس أي نوع من الرياضة لأتخفف من سطوة ذلك الغول، الذي يسكن أعماقي، لكن شيئا من ذلك لا يُدرك ولا يتحقق..
وما أعجب ما كان يحصل معي في كل مرة.. فالقلق الدفين في تجاويف صدري، والحزن المزروع في عظامي، والحنين الغامض الجاثم على صدري، لا يفارقني إلا إذا تطهرت بالدموع.. ساعتها أصير صافيا مثل نبع، شفافا خفيفا مثل فراش.. أشعر كأنني كسرت قانون الجاذبية، وحلقت بأجنحة من نور فوق ذرى الجبال.. ولا ينتهي مهرجان الدموع حتى تغمرني راحة عجيبة تشبه فرح الاطفال..
لا أدري ماذا حصل لي بعد ذلك.. زحفت صحراء قاحلة على نفسي.. وماتت جنان خضراء في صدري.. ونبتت أشواك وسدر وصبّار وسكّوم… وماتت عصافير كثيرة كانت تصدح في سمائي الخضراء فتشيع فيها النور والسرور..
لما عدت الى تونس منذ نحو أربعة أعوام بدأت مشاعري تتبلد، فلا يكاد البكاء يزورني إلا قليلا قليلا.. وما عادت نفسي تستحم في بحر المشاعر الشفافة المطهرة بالدموع.. صار جلدي ميتا كجلد تمساح أو فيل.. أحلام كثيرة ذبلت في نفسي.. وأشواق لاهبات انطفأ نورها في صدري.. وآمال عِراض طوتها الأيام.. وعشش في ثنايا الروح برد قارص وزمهرير.
في رمضان وحده تحيا النفس وتشف قليلا وتتسنم ذرى المعالي، حين أستجمع شتات أمري، وتسبح روحي مع المقرئ، ذي الصوت الشجي، في ملكوت كتاب الله العزيز.. وبين درر المعاني وجواهر الكلم أتأمل تصاريف الحياة وتقلبات الايام.. “وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا (الكهف الآية 45)..
يا إلاهي ما أسرع ما يمضي العمر.. وما أسرع ما تذوي زهرة الحياة، وما أشد ما تتقلب الأيام.. يا إلاهي ما أسرع ما ينزل القطر فتخضر الأرض، ثم تَهيج فتُبْهج الأنظار، ثم تصفر، ثم تراها سريعا هشيما تذروه الرياح.. وما أشد عصف رياح العمر وتقلبات الأيام، حتى كأني أسمع صفيرها الموحش في أعماقي، فإذا بي وجيلي ومن عرفت من الناس، بعد هنيهة، مجرد هشيم من ذكريات عابرات في سجل الوجود الرحب العجيب الرهيب.. وكم طوت الأيام من أوهام وبددت من أحلام وحامليها.
كثيرا ما شعرت كم أنا صغير لا يكاد يساوي شيئا في ملك الله الذي لا يحد.. فإذا كانت الأرض كلها في الكون مثل حبة غبار فما أكون أنا في هذا الكون العجيب؟ أذكر يوما أنني وقفت على عتبات جبل عظيم ممتد حتى نهاية النظر، فشعرت أنني لا أزيد شيئا عن شجرة مجهولة في ركن قصي منه، أو كأنني مجرد فراشة تهيم في رحابه، لا تكاد تبلغ منه شيء.
مضت الأيام والسنون، وظلت مشاعر القلق والحزن والحنين الغامض لشيء مجهول تجتاح حصوني الواهيات، فتضيق نفسي وتسود الدنيا في وجهي.. لكن الدموع الغاليات ما عادت تأتيني، كما كانت من قبل، تهدهدني وتزيل ما ران على قلبي من درن الأيام.
الرجال لا يبكون.. ذلك كلام تافه بلا قيمة ولا معنى، تعلمناه منذ طفولتنا.. غلاظ القلوب وميتو المشاعر وحدهم لا يبكون.. أما الرجال الحقيقيون فهم من لحم ودم ومشاعر طافحات كأنها الخيل الجوامح والرياح العاصفات، عجنت كياناتهم البلورية الشفافة بأنبل المشاعر وألطفها وأرقها.. ولا يطهر الروح والقلب من درن الدنيا شيئا مثل التواضع لخلق لله والتذلل لخالق الوجود وزخات الدموع.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock