صالح التيزاوي
قيل لجسّاس بن مرّة البكري لمّا قتل “كليبا”: لقد أتيت جرما سيجرّ على الحيّبن (بكر وتغلب) حربا تسيل فيها الدّماء إلى الرّكب بقتلك ابن عمّك وملك القبيلتين، فقال لهم: بل قتله بغيه. فهل اندثرت الجبهة الشّعبيّة بسبب بغيها على شركائها في الوطن وبسبب بغيها على الثّورة ؟
لم يستطع إئتلاف الأحزاب المكوّن للجبهة الشّعبيّة منذ قيام الثّورة أن يتأقلم مع الوضع الجديد الذي أفرزته الثّورة، ولم يقم زعماؤها التّقليديين بالمراجعات اللازمة للتّخفيف من حدّة خطاب أيديولوجي ماضوي يقوم على الحنين لخطاب المعلّبات الفكريّة القديمة وعلى الإقصاء وكأنّ البلاد لم تشهد ثورة على نظام الإستئصال والقمع. وأثبتوا بذلك أنّهم كانوا عرّابيه وأدواته لتجفيف منابع الهويّة داخل لجان التّفكير التّجمّعيّة وفي الإصلاح التّربري الذي قاده محمّد الشّرفي.
غفر لهم الشّعب ما سلف كما غفر لغيرهم من المعارضة أخطاءهم لأنّ الجميع لم يكونوا في وضع طبيعي تحت حكم الإستبداد. ولكنّ الرّفاق لم يغفروا للشّعب انتخاب منظومة أكتوبر 2011 في أوّل انتخابات حرّة وتعدّديّة بعد سقوط نظام الفساد والإستبداد. انطلقت المؤامرات لقطع الطّريق على شركائهم في الوطن لتجريدهم من شرف قيادة المرحلة التّأسيسيّة. رغم سياسة اليد الممدودة ودعوتهم للمشاركة في أوّل حكومة تعدّديّة بعد الثّورة، ولكنّهم رفضوا لحسابات أيديولوجيّة ضيّقة، ورغم مشاركتهم الوازنة في صياغة الدّستور بما يفوق حجمهم في المجلس التّأسيسيّ، الذي كان حمْة الهمّامي أوّل الدّاعين له وكان أيضا أوّل الدّاعين إلى حلّه والإنقلاب عليه وعلى المسار الدّيمقراطي برمّته. وبدل أن تمتدّ أيديهم للثّورة، امتدّت للنّطام القديم، فكانوا عكّازه، وأعادوه إلى المشهد حتّى كاد يفتك بالثّورة.
لقد آثر إئتلاف أحزاب اليسار الثّقافي أن يبقى خارج مفردات التّقدّم بخطاب أيديولوجيّ متعال وعنيف، لم يشكّل قطّ في تاريخه هويّة معرفيّة، بل كان خطابا، ينهل من عوامل الإثارة للعداء والإستئصال ويدّعي احتكار كلّ الحقائق القبليّة والبعديّة وحتّى الثّوريّة. أثبت أنّه خطاب غير قابل للتّأقلم مع متطلّبات المسار التّعدّدي، لا يتقن غير العنف وقطع الطّرقات، فتحوّل حضورهم الإعلامي المكثّف الذي أتيح لهم كما لم يتح إلى غيرهم إلى ساحة حرب، وتحوّل المجلس النّيابي إلى عراك وشتائم بل وسبّ للجلالة، وهو ما زهّد التّونسيين في الأحزاب وصرفهم عن السّياسية والسّياسيبن، وهو ما يفسّر أيضا نسبة الإقبال الضّعيفة في الإنتخابات التّشريعيّة. وقد كانوا أوّل ضحايا ذلك العزوف.
فهل جنى عليهم بغيهم على شركائهم في الوطن؟
يبقى الأمل معقودا على عقلاء الجبهة واليسار عموما أن يقدموا على مراجعات جدّية، مستخلصين الدّروس من الإنتخابات التّشريعيّة الأخيرة التي صوّت فيها الشّعب للخطاب الأقلّ عنفا وكراهيّة، ومستخلصين الدّروس من الإنتخابات الرّئاسيّة التي فاز بها قيس سعيد رغم كونه لا يستند إلىى حزب ولا يملك آلة انتخابيّة ولا إعلاما يروْج له وكان أقلّ المترشّحين إنفاقا على حملته، ولكنّه أبدع خطابا سياسيّا تجديديا في المفاهيم وفي الرّؤية المستقبليّة، وفي تجميع التّونسيين على أسس الحرّيّة والحقوق ومبادئ المواطنة. فهل نأمل من عقلاء الجبهة
أن يراجعوا أنفسهم ويراجعوا مرجعيّاتهم لينخرطوا مع شركائهم في الوطن في صنع مستقبل أفضل تتحقّق فيه أهداف التّونسيين من ثورتهم؟
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.