صالح التيزاوي
عملت الثّورة المضادّة ما في وسعها وأكثر لتخريب ربيع العرب بأسرع وقت ممكن وبأكثر الأساليب وحشيّة ودمويّة. وقد كان لها ما تريد في مصر وفي اليمن وفي سوريا وفي ليبيا، حيث أغرقت البلاد والعباد في دوّامة من العنف وبحر من الدّاماء، تنفيذا لمشاريع أجنبيّة تستهدف قطع الطّريق على الشّعوب العربيّة نحو الحرّيّة والكرامة والإبقاء عليها في حالة تبعيّة اقتصاديًة والحاق ثقافي، تحت حكم استبدادي انتدب لتلك المهام، مهما حاول تجميل صورته القبيحة بقشور الحداثة وملصقات الأمن القومي والممانعة ومقاومة المؤامرات الإمبرياليّة على المنطقة العربيّة وهم الذين يبيتون ويصبحون في أحضان الإمبرياليّة التي زرعتهم في أوطاننا وأعلنتهم رؤساء وملوك وأمراء وسلاطين.
ربّما تكون الثّورة التّونسيّة وهي منطلق الثّورات العربيّة، هي الثّورة الوحيدة النّاجية من الإقتتال الدّاخلي، ولكنّهم رتّبوا لها أحداثا عنيفة لم تهدأ ولم تتوقّف منذ مرحلة التّأسيس، بلغت ذروتها مع الضّربات الإرهابيّة الغادرة التي طالت قوّات الأمن والجيش وطالت مدنيين أيضا. استغلّت المعارضة تلك الأحداث لتخريب معنويّات الشّعب التّونسي وتغليب خلافات المرحلة على روابط التّعايش والمواطنة بهدف إعادة التّموقع وليس من أجل تونس كما يزعمون.
أعادت إنتخابات أكتوبر 2014 المنظومة القديمة إلى واجهة الحكم وسيطرت على الرّئاسات الثلاث، ومنذ ذلك الحين وهي تعمل على إحداث إنقلاب ناعم، يخرج الثّورة من المجتمع ومن وجدان التّونسيين كما يخرج “الخاتم من الإصبع” فيما رواه الباجي الصّغير عن الباجي الكبير. شهدنا ترذيلا للمسار الديمقراطي وللثّورة، اشتغلت عليه منصّات إعلاميّة، وتعطيلا لبناء المؤسّسات الدّستوريّة “المحكمة الدّستوريّ نموذجا”. والأخطر من ذلك كلّه ضرب الإستقرار السّياسي من خلال التّغيير السّريع وغير المدروس للحكومات بذرائع مختلفة، مع أنّ المنظومة القديمة ممثّلة في نداء تونس، هي التي جاءت بتلك الحكومات: (حكومة الحبيب الصّيد وحكومة يوسف الشّاهد)، وهم يدركون أنّ عدم الإستقرار السّياسي يمكن أن يكون مقدّمة لفوضى اجتماعيّة عارمة لا تبقي ولاتذر.
أمّا البواعث الحقيقيّة لإسقاط الحكومات، فليست خافية على العارفين بدواخل العائدين إلى الحكم بعد أن أقصتهم الثّورة وفرضت عليهم في إيّامها الأولى لبس السّفساري، واضطرّ آخرون لمهادنتها، يد مع الثّورة والأخرى عليها، كما هو الحال في لفيف الأحزاب الشّيوعيّة المتطرّفة، أو ما اصطلح على تسميته في تونس باليسار الثّقافي واليسار الإستئصالي تمييزا له عن اليسار الإجتماعي الذي يحظى باحترام واسع في المجتمع التونسي بالنّظر إلى اعتداله ونزاهته ونضاله ضدّ الإستبداد. ولعلّ من أهمّ تلك البواعث:
- التّغيير السّريع والمتعاقب للحكمومات من أجل ضرب الإستقرار والتّأسيس لبيئة طاردة للإستثمار.
- تعطيل أيّ برنامج إصلاحي وخاصّة الإصلاحات الكبرى التي يمكن أن تغيّر من واقع النّاس.
- إيجاد ذرائغ لإدخال تغييرات على النّظام السّياسي يقلّص من هامش الحرّيّة ويعيد جمع السّلطات في قبضة واحدة بما يهيّء للعودة إلى مربّع الإستبداد.
- إيجاد بيئة معادية للثّورة وذلك بتحميلها كلّ المآسي والإخفاقات خاصّة في المجالين الإجتماعي والإقتصادي.
تمرّد رئيس الحكومة على حزبه ووجد سندا برلمانيّا يرى في التّغييرات العبثيّة خطرا على إستقرار البلاد وعلى انتقالها الدّيمقراطي.
ومنذ ذلك الحين لم تهدا قوى الجذب إلى الوراء من أذرع الثّورة المضادّة ومخالبها وأذيالها ومرتزقتها ومأجوريها. فلم يتركوا وسيلة للإرباك وإشاعة الفوضى إلًا استعملوها..
اختفت من الأسواق وعلى جناح السًرعة سلع أساسيّة تشكّل الغذاء الأساسي للمواطن من بيض وحليب وزيت وسكّر وسميد وهي سلع في غالبها مدعومة ونشطت حركة التّهريب فارتفعت الأسعار بطريقة جنونيّة وأصبح المناخ العام مهيّئا لفوضى عارمة وصنع شتاء ساخن، إمّا لتأجيل الإستحقاق الإنتخابي أو للإنقلاب على المسار بأكمله.
وعندما باءت محاولتهم بالفشل ولم يستجب الشّارع لمخطّطهم، استنسخوا فكرة السًترات، وقد أرادوها حمراء تنفيذا لما توعّد به بعض الحداثويين من أنّ سنة 2019 ستكون سنة دمويّة، وقد سبق لهم في اعتصام الرّحيل أن هدّدوا بقتل الآلاف من أجل إسقاط حكومة التّرويكا الثّانية. مرّة أخرى لا يستجيب الشّارع رغم الضّائقة الإجتماعيّة. فلم يبق أمامهم إلّا أن يستنجدوا بالدّجّالين والمشعوذين لإشاعة الخوف واليأس والتّأثير في نوايا التّصويت.
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.