تدوينات تونسية

الماركسية في نسختها التونسية: يسارية بائسة ورثة

صالح التيزاوي

لا أحد ينكر أن الماركسية في نسختها الأصلية “اللينينية الستالينية” في الإتحاد السوفياتي، دولة المنشإ، لكونها شهدت أول تطبيق لأفكار “كارل ماركس”. عرفت بانحيازها الواضح للعمال والفلاحين وسائر الطبقات الكادحة، في صراعهم ضد الطبقة البرجوازية، المستغلة، واستمر هذا الصراع يحصد الملايين من أرواح البشر بقيادة لينين، وأفضى إلى تأسيس: “دكتاتورية البروليتاريا” على يد “ستالين”.

فما بال الماركسية في نسختها “الجبهاوية” في تونس، تنظر لفكر يساري، بائس ورث؟ هل ورث الرفاق من فلسفة كارل ماركس “بؤسها” فقط ؟، كما أخذوا من الحداثة قشرتها فيما بقيت “الروح جاهلية”، كافرة بالمبادئ، كافرة بالعمال وبالكادحين، وهي لا تذكرهم إلا من باب التجارة بمحنهم على أن كفر الرفاق بالديمقراطية أشد.

الماركسية في نسختها الأصلية، كانت واضحة في انحيازها للطبقات العمالية، وفي مناهضتها للبرجوازية وللإقطاع، ثم للرأسمالية. كما ان الماركسية في نسختها الأروبية، وهي تناضل من قلب قلاع الرأسمالية، بقيت وفية للمبادى الإشتراكية في انحيازها للكادحين، بمنهج ديمقراطي، دون التصادم مع مؤسسات الدولة، ودون سعي إلى نسفها. لقد قبلوا بقواعد اللعبة الديمقراطية، وقبلوا بدور ضاغط على الدولة من أجل التخفيف من حدة ووحشية التوجهات الرأسمالية على العمال.

وتحقيقا، لهذا الغرض، نرى حوارا بين كبار علماء اللاهوت المسيحيين مع ماركسيين، تأكيدا على أهمية البعد الروحي للدين في الحياة العامة. فهل الشيوعية في نسختها التونسية الجبهاوية، أكثر فهما للماركسية، من اليساريين في البلدان الغربية؟ أم أن النسخة التونسية أصابها الترهل فأصبحت عاجزة عن مواكبة التحولات العميقة في الداخل والخارج؟

وهل أصبحت النسخة التونسية “محافظة” و”سلفية” أكثر بصورة رثة ومزرية.

يقول أحد وجوه الجبهة: “سنعمل على خفض شعبية النهضة” ويعترف بأن “هذه المعركة، ستستغرق عشرات السنين”.

سمعنا بأحزاب، تنفق من وقتها ومن مالها للتعريف ببرامجها حتى تكون بدائل محتملة للحكم خاصة في المناخات الديمقراطية، لكننا لم نسمع بأحزاب، تنفق وتتكتل لخفض شعبية منافسيها. يتبين مما سلف أن الرفاق في تونس، لم تعد معركتهم مع الفقر، ومع البطالة، التي اكتوى بنارها التونسيون.

لمصلحة من يشعل الرفاق هذه الحرب؟ وأية مصلحة للوطن وللثورة من هذه المعارك المفتعلة؟ وهل تخدم هذه المعارك “قفة الزوالي” و”قفة خالتي مباركة” في شئ؟. وهل أصبح ترذيل الخصوم وتشويههم، أولوية الفكر اليساري الرث في تونس؟

كلما تأملت الفكر اليساري في العالم وجدته محقا في معاركه واضحا في أهدافه، إنسانيا في تطلعاته، ديمقراطيا في مناهجه، وازددت يقينا أن الفكر اليساري في العالم، عامل تطور وأما في تونس، فأصبح عامل انحطاط وشد إلى الوراء.

يعترف السيد محمد الكيلاني، پانه زمن حكم الترويكا، وأيام الإعداد لاعتصام الإنقضاض على المؤسسات الديمقراطية الغضة في البلاد، بأنه اتصل بالسيد كمال لطيف ودعاه هو وامثاله ممن يوصفون في الفكر الماركسي الأصيل، پانهم برجوازيون، ورأسماليون، دعاهم إلى “تحمل مسؤولياتهم”، في تصفية التجربة الديمقراطية الناشئة، إنه الحقد الأيديولوجي، والتحجر الفكري، والتبعية الفكرية، أو ربما هو التعالي السياسي الكاذب، فالديمقراطية التي لا تقذف بالرفاق إلى سدة الحكم “وأدها” أنفع وأفيد. والشعب الذي لا يمنحهم ثقته “وعيه لم يكتمل”، أو هو ربما واقع تحت تأثير “الفكر الرجعي” كل ذلك أملى على الرفاق تحالفهم مع “أعداء البروليتاريا”، بل مع منظومة الإستبداد التي كانوا يدعون معارضتها، وهم الذين عاشوا بين أحضانها، وراهنوا على اختراقها. وهاهم اليوم يستغربون عودتها… ألم يكونوا واجهتها ؟

وأكثر من ذلك، لقد كانوا عكازها. تماما كما كانوا في زمن الجمر تحت دولة الخوف والرعب، كانوا دليلها على خصومها وعلى كيفية مجابهتهم وتجفيف منابعهم الفكرية. كثيرا منهم اتخذوا من “لجان التفكير” في حزب بورقيبة، ثم في حزب المخلوع ملاذا آمنا لتحقيق أغراضهم السياسية. ألم يعترف أحدهم بمراقبة المساجد، في اعتداء صارخ على حقوق المواطنة وعلى دور الدولة. لقد استغلوا رغبة بورقيبة في تحديث المجتمع، فدفعوه إلى أرذل أنواع الحداثة، واستغلوا هوس المخلوع بالسلطة، لتخويفه من أصحاب المرجعيات الإسلامية، ولم يهدأ لهم بال حتى قذفوا بالجميع في غيابات السجون، وورطوا الدولة في قتل أبنائها وتشريدهم. لقد انضم الكثير من اليسار الإنتهازي للحزب الحاكم بحجة التغيير من الداخل، ثم توزروا في حكومات بورقيبة والمخلوغ، بل وأصبحوا أبواق دعاية للدكتاتورية، وأصبحوا يبررون تاجيل الديمقراطية. سأذكر الإصلاح التربوي الأخير، المعروف “بإصلاح محمد الشرفي” الذي جمع حوله أقطاب اليسار المعرفين بمواقفهم المتطرفة من الهوية، حتى وإن تظاهروا بأنهم مع الإسلام “ثقافة وحضارة”. إصلاح هندسه اليسار الإنتهازي وتكفل التجمع بإخراجه. وقد تزامن ذلك الإصلاح مع إقصاء جزء هام من أبناء الشعب، بل وتم تغييبهم في السجون. وبعد أن قضى التجمع من الجماعة وتره، أقال محمد الشرفي، وأعلن إصلاحات جديدة عرفت “إصلاحات ما بعد الشرفي”.. وما الخوض اليوم في إصلاح جديد وشامل إلا دليل على قصور ذلك الإصلاح، الذي قاد إلى تدني مستوى التعليم وتفاقم البطالة في صفوف الخريجين، وأنتج فيالق من المتشددين.

يقول احد هؤلاء اليساريين، مدافعا عن إصلاح الشرفي حتى بعد ان ظهر للعيان فشله “إنه إصلاح جيد فيه الرقص وفيه الموسيقى” وهو نفس الكلام الذي ردده ناجي جلول. مما يعني ان الدوافع إلى الإصلاح التربوي والأهداف لا علاقة لها بتحديث المجتمع، ولا بتنوير العقل وتثويره، ولا بتنمية الملكات والمواهب، ولا ببناء عقلية نقدية، وإنما كان شيئا آخر: تصفية آثار الإصلاح التربوي الذي أشرف عليه محمود المسعدي والتأسييس لعلمانية قاتلة (العلمانية الأسوأ في العالم). هكذا هم الرفاق في تونس، دائما يحجمون عن المعارك الحقيقية للوطن، ويستبدلونها بأخرى وهمية، يخيل إليهم أنهم يصنعون التاريخ، وما هم إلا على هامشه.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock