عبد اللطيف علوي
بعض النّاس تخالطهم كثيرا، ومنهم من تعيش معهم حياتك كلّها، ولكن عندما تحاول أن تتذكّر لهم موقفا أو رأيا أثّر حقيقة في قرار من قراراتك الكبرى في حياتك قد لا تجد…
وبعضهم قد لا تقابله إلاّ مرّة واحدة، أو مرّات قليلة، وقد تتبادل معه حديثا عابرا، ولكنّه يترك في نفسك أثرا عميقا يساعدك في تحديد خيارات معيّنة في حياتك!

جاءت الثّورة وأنا عمري اثنان وأربعون سنة، وكان لديّ جرح عميق، أنّني حرمت من إكمال دراستي الجامعيّة! اجتمعت عليّ أسباب السّياسة والسّجن والملاحقات الأمنيّة بأسباب الفقر والميزيريا والحالة الاجتماعيّة التّعيسة فتوقّف المسار الجامعيّ في كلّيّة الحقوق سنة 91، وبقي الجرح ينزف طيلة سنوات، لأنّني رغم أنّي لم أختر في البداية كلّيّة الحقوق، وكان اختياري الأوّل هو دراسة العربيّة في كلّية منّوبة، ورغم أنّ العدد الّذي تحصّلت عليه في الباكالوريا في مادّة العربية آنذاك كان 16/20، إلاّ أنّه وقع توجيهي إلى الحقوق فرضيت، ووطّنت أحلامي مجدّدا على أن أصبح محاميا، ولم يكن هناك في برّ تونس كلّها، بمنتهى التواضع أقولها، من كان أجدر منّي أو أقدر على النّجاح وبامتياز أيضا. لأنّني ببساطة كنت من الّذين يقرؤون بلا توقّف، ويلتهمون الكتب التهاما.
أذكر في أوّل ليلة لي كطالب في المبيت الجامعي الحبيب ثامر، اجتمعنا مجموعة من الطّلبة الجدد نتعارف، ونتبادل الأفكار فيأخذنا الحديث إلى مواضيع شتّى، وأذكر أنّه كان يجلس أمامي طالب، لعلّه إذا قرأ هذا النّصّ سيتذكّر الواقعة، كنت أنا أتحدّث وهو ينظر إليّ في ذهول وحيرة فاغرا فاه… وحين أنهيت… ضرب ركبته بكفّه وقال: “يااااحليلي نايا ياداده!! واش عملت في روحي!! نايا جاي باش نقرى مع هاضا؟!”
وهو اليوم محام لدى التّعقيب قدّ الدّنيا ولديه فيلاّ وسيّارة تمساحه وربّي يزيده من فضله! واللّه أنا سعيد لأجله حقّا، لأنّه زوّالي فعلا وصنع نفسه من عدم!
(على فكرة، ماهمش المحامين الكلّ لديهم فيلاّت وسيّارات تمساحه! أنا موش بحسد ياخال! أنا بَقُرّ بس🫤”!)
المهمّ… أعرف أنّكم مازلتم تتساءلون إلى الآن عن علاقة عبد الحميد الجلاصي بالموضوع!
صبرا جميلا…
بعد الثّورة، بدأت أفكّر جدّيّا في استئناف المسار الجامعيّ، رغم أنّ ظروفي آنذاك كانت خانقة ومستحيلة، وكان من شأن ذلك أن يدخل ارتباكا على حياتي كلّها… وصادف أن التقيت عبد الحميد في إحدى المناسبات، سنة 2013، وكان قد قرأ لي بعض القصائد والنصوص، وحين أسررت إليه بالأمر قال لي:
“ماننصحكش! عندك باارشه ما تعمل في حياتك، والوقت اللّي باش تضيّعوا تحتاجه لما هو أهمّ بكثير! أنت كاتب! ومسؤوليتك أكبر من ألف محامي!”
في تلك اللّحظة شعرت بما يشبه الصّدمة! صدمة إيجابيّة طبعا! كأنّها جمرة وسقطت في الماء!
عدت إلى البيت وأنا أفكّر في تلك الكلمات! نعم… ما قيمة أن أحصل على الشّهادة الجامعيّة الآن وماذا يمكن أن تزيدني!؟ ماذا سأفعل بها! لقد فات وقتها! والأشياء الّتي يفوت وقتها تفقد قيمتها! هناك أشياء اشتهيتها كثيرا في مرحلة من عمري، وبقدر ما اشتهيتها وحرمت منها تعلّمت أن أزهد فيها! بناتي اليوم يصررن على أن يدلّلنني أحيانا بأشياء كثيرة لها قيمة في نظرهنّ مثل اللّباس أو الأكل أو الفسح، ولكنّهنّ لا يستطعن أن يفهمن أنّ هناك أشياء كثيرة في حياتي لم تعد تفرحني لأنّه فات وقتها، وبقدر ما اشتهيتها ذات يوم ماتت في نفسي وصرت اليوم زاهدا فيها…
أعود إلى الموضوع… قلت وأنا أحدّث نفسي عائدا بعد ذلك الحديث العابر: ” ماهو أقصى ما ستحقّقه حين تصبح محاميا؟! أن تدافع عن شخص أو مجموعة أشخاص؟! أن تربح المال؟ أن تصبح ذا حيثيّة اجتماعيّة وتعلّق يافطة “الأستاذ فلان الفلاني؟” أن ترضي غرورا ونرجسيّة داخليّة مشروعة!؟
حسنا أليس بإمكانك اليوم أن تفعل أكثر من كلّ ذلك؟! أليس بإمكانك أن تكون محامي القيم والمبادئ والقضايا الكبرى الّتي طالما آمنت بها!؟ أليس بإمكانك أن تكون المحامي في محكمة التّاريخ لجيل كامل من الّذين سُرِقت أعمارُهم وعذّبوا واضطُهِدوا ودفنت أحلامهم في السّجون وفي كرّاكة برج الرّومي الّتي أكلت جزءا من حياتك وحياة أمثالك!؟
ثمّ يا صديقي، كم في هذه الدّنيا من محام وكم من أستاذ وكم من دكتور جامعيّ وكم من مهندس وكم من طبيب…
الآلاف وعشرات الآلاف ومئات الآلاف…
ولكن كم من شاعر أو روائيّ مبدع يخلّد حياة النّاس وأحلامهم ويروي سيَرَهم وعذاباتهم، ويقف في محكمة التّاريخ مدافعا عن قيم الحياة والعدل والرّحمة والحرّيّة!… العشرات.. وربّما أقلّ من ذلك بكثير!
منذ تلك اللّحظة، ألزمت نفسي أكثر بما أنا مسخّر له، وكانت بعدها ثلاثيّة “سيرة الثورة”، الّتي أعتبرها أعظم إنجازات حياتي، ولا تعادلها كلّ شهائد الدّنيا ولو اجتمعت!
لقد كانت مرافعتي الكبرى في محكمة التّاريخ، دفاعا عن جيل كامل سحقته دولة القمع الدّائم، وشهادتي الباقية، عن زمن يريدونه بلا شهود!
أمّا عن حلمي في المحاماة، فقد أنعم اللّه عليّ أن أحقّقه كذلك بعد سنوات قليلة من ذلك اللّقاء، بفضل اللّه، في شخص ابنتي “الأستاذة حنين علوي”، ومن نفس الكلّيّة بعد أن جلست على نفس المدارج الّتي غادرتها ذات يوم مكرها.
اللّهمّ لك الحمد والشكر قدر ما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك!
اللّهمّ فرجا عاجلا ونصرا مؤزّرا وجبرا جميلا لأخي عبد الحميد الجلاصي، فقد شهدتُ، ولا أشهد إلاّ بما أمرتني، بأنّ جريمته الوحيدة أنّه كان رجلا صالحا في زمن فاسد!
ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه!
اكتشاف المزيد من تدوينات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.