الثلاثاء 29 أبريل 2025
نور الدين الغيلوفي
نور الدين الغيلوفي

وفي أنفسكم، أفلا تبصرون؟

نور الدين الغيلوفي

1. هذا نصّ كلاميّ، لا علاقة له بالوقائع. الوقائع ليست أكثر من قادح للفكرة ومحفّزة على كتابتها.
كن أنت، ولا تكن غيرَك مهما كان لهذا الغير من تأثير عليك. أمور المصير لا تعني أحدا سواك. لا أحدّثك، هنا، حديثَ الواعظين. أدعوك فقط إلى أن تكون براغماتيّا لا تفلت فرصة هي لك.. عمرك الذي لا تدري كمّه فرصتك وحدك فلا تُوكِل بفرصتك أحدا غيرك. لا أحد يمكنه أن يحمل وزرك عنك في ما تجاوز مهوى بصرك ومحكم حسّك وحدود وعيك.

2. افرض جدلا أنّك خالق نفسك وأنّ كائنا لم يخلقك، ووجدت بعض الناس من حولك يقول لك انتبه فإنّ كائنا لا تراه اسمه الله هو الذي خلقك وما خلقك إلّا لأجله. وليؤكّد لك ذلك جعل لك استطاعة لا حدود لها ولكنّها استطاعةٌ بين عجزَين، فأنت عاجز في مبتدأ حياتك وعاجز عند خواتيمها. ولا أحد أنبأك عمّا تصير إليه بعد ختام حياتك. فلا تجزم بالنفي ما عجزت عنه بالإثبات.
وافرض أنّ هذا الخالق هو الذي جعل لك عقلا وأعطاك قوّة ومكّنك من مفاتيح الإرادة وأوسع لك من مساحة الاختيار وملّكك وَهْمًا نفيتَه هو به وحللتَ به محلّه لتقول أنا ولا شيء بعدي ولا شيء قبلي ولا شيء فوقي وكلّ الأشياء تحتي. أنا الإنسان المطلق وأنا إله نفسي. ولا إله غيري.

3. افرض أنّك لم تصل إلى هذا إلّا عن طريق معلّم عبّد لك الطريق وسهّل عليك الفهم وأرشدك إلى أنّك سيّدُ معناك وليس لكائن سيادةٌ عليك.
ركبت رأسك خلف معلّمك وتبعت خطى ملهمك وألّهت نفسك وفعلت ما في وسعك بلا ضبط ولا ربط. لسانك يسير على خطى عقلك وعقلك أملى عليك أن تسير بمفردك وتحلّ جميع الصعوبات وحدك.

4. ثمّ إنّك رأيت معلّمَك يكبر أمام عينيك.. رأيته يدبّ فيه هرمٌ لا يملك ردَّه. ورأيته تتعطّب أجهزته وتتعطّل فاهمتُه. وصار إلى حال فَقَدَ معها كلّ استطاعته حتّى ما عاد يملك أن يمسك لعابه أو يردّه عن مَسيل، وامتنعت صيانتُه. أصاب الطبّ منه نصيبا فأصلح بعض عطبه الجسمانيّ وغابت عنه أمور لم يتمكّن من تصليحها فرفع عنه يده.. وتركه لنفسه وسلّمه لحظّ غامض لا علم له به ولا سلطان له عليه. المشاعر اختفت لم تعد تفصِحُ والعقل لم يعد له أمر ولا نهي والحواس اختلطت وغابت الوجهة وطُمست العين فما عاد لها ذاك البريق.

5. خرج معلّمك الملهمُ من البيت في الليل بلا إذن ولم يعلم به أحد.. حتّى نفسه لم تعلم به. خرج لا يَميزُ شتاء يثقل له اللباس من صيفٍ يضع به من لباسه عنه. سلك طريقا لا يعرفه يسير هملا إلى غير وجهة وبلا قصد ويغيب. في لحظة ما ينتبه أهله، ومن حسن حظّه أنّ له أهلا ينتبهون، إلى خروجه.. يبحثون عنه فلا يجدونه.. وتضجّ الساحات تبحث عنه مثل بعير تاه في الصحراء. كان هنا فما الذي أخرجه؟ لم يعد له من وجه يُستدَلّ به عليه.. ضاعت عَلَميّتُهُ فما دلّهم عليه إلا لون لباسه يُظَنّ أنّه كان حين نام به.

6. لن أحدّثك عن عبرة أنت لا تعتبرها ولن أشير إلى درس أراك غير مستعدّ لحفظه. ولا معلّم غير ذاك المعلّم يملك كرّاسا يعلّمك منه. ولست لك من الواعظين.. ولو كان من عِظَةٍ لاتّخذتُها لنفسي.
غير أنّك حين تأوي إلى نفسك تخلو إليها ستراك في هذا المعلّمك كأنّك تقف أمام مرآة لا تعكس غيرك.. أنت هو هذا الذي ترى ولو بعد حين.. فإذا امتدّ بك حبل العمر نفدت أرصدة كانت لك، فأنت المقصود بقوله
((وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا )).
أرذل العمر أنت لا تختار المسيرَ إليه.. تساق إليه سَوْقًا. كأنّ بك إلى حتفك شوقًا.
فأنت حين تراك تراه. ألم تر كيف أنك تموت في موت غيرك. كأنّك، عند كلّ جنازة، تشهد “بروفة” مصيرك قبل أن تصير إليه. لن تبصر نفسك حين تصير إلى منتهى المصير. ستكون، وقتها، موضوعا للبصر. ستكون درسا يمرّ بك المبصرون فلا يبصرون. ويواصلون مسار الهذيان المتلاشي.

7. كان لنا في تاريخ ثقافتنا رجل عبقريّ يدعى أبو العلاء المعرّي. كان أعمى ولكنّه نظر إلى ما لم يره المبصرون. داخله شكٌّ أمضّه. لم يدّع لنفسه أكثر من الشكّ، لأنّه على غزارة علمه وسعة اطّلاعه وفرادة تأمّله لم يملك أن يجزم بنفي ما لم يملك أن يثبتَه. أدرك المعرّي أنّ عظَمة الله في قدرته على الاختفاء. وعلى الإنسان أن يجد ربّه إذا ما ستطاع إليه سبيلا. وهو لا يتجلّى إلّا لمن وصل بنفسه إليه. والمعرّي لم يجد الآلة ولا السبيل. لم يوهب طمأنينة الإثبات فلم يعط نفسَه حقّ النفي ولم يطمئنّ إليه كما يفعل المتسرّعون. وقد عبّر عن حيرته في قوله:
أَمّا اليَقينُ فَلا يَقينَ وَإِنَّما * أَقصى اِجتِهادي أَن أَظُنَّ وَأُحدِسا
ولأنّ الأمر كذلك، فقد انتهى المعرّي إلى قرارٍ خُلاصتُهُ:
القُدسُ لَم يُفرَض عَلَيكَ مَزارُهُ * فَاِسجُد لِرَبِّكَ في الحَياةِ مُقَدِّسا
ومن بعد المعرّي جاء من مرجعيّة أخرى باسكال برهان له شهير خلاصتُه:
• إن أنت آمنت بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في الجنّة، وهذا ربح لا محدود.
• وإن لم تؤمن بالله وكان الله موجوداً، فسيكون جزاؤك الخلود في جهنّم، وهذه خسارة لا محدودة.
• إن آمنت بالله وكان الله غير موجود، فلن تُجزى على ذلك، وهذه خسارة محدودة.
• إن لم تؤمن بالله وكان الله غير موجود، فلن تُعاقب لكنّك ستكون قد عشت حياتك، وهذا ربح محدود.

8. قد لا تستطيع أن تعرف وجود الله بالعقل وحده، غير أنّ من الحكمة أن تعيش حياتك على أساس فرضية وجود الله، بذلك لا تخسر شيئا. جُودِلَ باسكال في رهانه ونُقض ما انتهى إليه. غير أنّ المعادلة في ما امتنع بيانه أن تكون إلى البساطة أقرب.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

نور الدين الغيلوفي

ويل لهذه البلاد من هذا الظلم

نور الدين الغيلوفي ((وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ …

نور الدين الغيلوفي

تعبنا، فأين مدُّك ؟ أَشلاؤنا أَسماؤنا. لا .. لا مَفَرُّ

نور الدين الغيلوفي يا خالقي في هذه الساعاتِ من عَدَمٍ تَجَلَّ! لعلَّ لي حُلُماً لأَعْبدَهُ …

اترك تعليق