الأربعاء 30 أبريل 2025

طوفان الحبّ و قيامة الإنسان

فتحي الشوك

ما نسمعه سمفونية رائعة بنوتات مبتدعة وبميزان جديد، مزيج من الموسيقى السّاحرة المندلقة من آلات عزف الأوركسترا المنسجمة مع أهازيج الجمهور والمتناغمة مع أيّ صوت كان، بل قد يتبيّن لمسامعك الزّفير والشهيق وخفقان القلوب وهمس النّسيم وزفيف الرّيح ونقرات قطرات المطر وزمجرة الرّعد وهدير الموج وزقزقة العصافير ونقنقة الدّجاج ومواء القطط وضحكات الأطفال وصرخة وليد وحشرجة شيخ يحتضر.

تسليم الأسيرات
تسليم الأسيرات

ما تشاهده أعيننا مشهد أيقوني من عالم آخر، يوتوبيا من عالم برزخي يجعلنا نشكّ في أنّ مخرجه وأبطاله وجمهوره وديكوره يمتّون بصلة إلى كوكبنا الأزرق البائس الموبوء، ويجعلنا نتساءل كيف أمكن لهم النّجاة وحماية أنفسهم من الوباء المنتشر الّذي لم يستثن أحدا؟

كثيرة هي الصّور الّتي تردنا وكلّ صورة تحتاج الى معاول داريدا و فوكو لفكّ شفرتها وتفجير بنيتها وكلّ واحدة منها قد تتطلّب كتبا للتّفسير فلنتوقّف عند إحداها لنستلهم بعض إيحاءاتها، صورة لحظة تسليم الأسيرات “الإسرائيليات” الثّلاث، رومي جونين، ايميلي دماري و دورون شطنبر خير، فتيات أنيقات جميلات تشعّ وجوههنّ صحّة ونضارة وابتسامات، كانت كلّ تعابيرهنّ تشي بمعاني الرّاحة والطّمأنينة وفي عيونهنّ فائض من الحبّ والاعتراف بالجميل.

يشكّ المرء في أنّ هؤلاء كنّ أسيرات وكنّ في محنة ومررن بأزمة جعلت العالم المنافق يقف على ساق ونصف!
قد يلمّح البعض إلى متلازمة ستوكهولم لكّنهنّ لا تبدو عليهنّ آثار ما بعد الصّدمة أو أعراض القلق والاكتئاب الّتي غالبا ما تميّز تلك المتلازمة، يبدو أنّها متلازمة أخرى صحّية وغير مرضيّة أصابتهنّ، متلازمة الطّوفان، طوفان الحبّ وقيامة الإنسان!

يبدو أنّ الشّابات الثّلاث أسرن وهنّ مريضات وقد عولجن خلال فترة أسرهنّ، كيف لا يكنّ مريضات، غير سويّات نفسيّا وهنّ منتوج بيئة موبوءة فاسدة مفسدة وآلة متوحّشة اختصاصها تدمير الإنسان؟

لسن الوحيدات المصابات بهذا الوباء المتفشّي المنبعث من مداخن مصانع التوحّش المهيمن والفارض بالقوّة سرديّته الكاذبة، المستلب للعقول والمميت للإنسانيّة، جميعنا ضحايا هذا النّظام العفن، نتنفّس هواءه الملوّث ونتعرّض لقصفه لوعينا ونخضع له كصلصال في أيديه القذرة، ما يميّزهنّ انتماؤهنّ لنخبته و “شعبه” المختار، المثال الّذي يريد النّظام النيوكولونيالي أن يفرضه كقدوة ومثال يحتذي به ليتّبع ويقبل به ويخضع له الجميع كقضاء منزّل. هكذا اشتغلت مختبراتهم وتأسّست سرديّتهم ليقع ترسيخها وتثبيتها في عقولنا المهزوزة ونفوسنا المهزومة لتصير نصّا مقدّسا، على من يريد جنّتهم أن يلتزم بتعاليمه حتّى انبعث فتية كهف غزّة وانفجر من صخرها عيون الطّوفان.

محظوظات هؤلاء الفتيات، من وجدن أنفسهنّ يتلقّين حصص علاج سلوكي ومعرفي ودعم نفسي ليشفين ممّا أصابهنّ من علل وأسقام من مخلّفات وآثار بيئتهنّ المريضة، وقد تلقّين الهدايا مع شهادة تثبت شفاءهنّ واستعادتهنّ لصحّتهنّ العقليّة والنفسيّة.

كم نحتاج نحن البقيّة، عامّة ونخبة، محكومين وحكّاما مثلهنّ الى هذه الفترات العلاجية على أيدي هؤلاء الأطهار لإعادة التأهيل وبناء ما دمّر فينا واستعادة ما فقدناه: صفة الإنسان.

د. محمّد فتحي الشوك.


اكتشاف المزيد من تدوينات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاهد أيضاً

فتحي الشوك

لا يواجه هذا “الجنون” إلّا بقدر من التحدّي المجنون

فتحي الشوك بعضهم لم تستفزّهم تصريحات ترامب الوقحة والفجّة بقدر ما أثارتهم كلمات أحمد داوود …

فتحي الشوك

لنبحث لحيواتنا عن معنى

فتحي الشوك انتحار كهل أربعيني شنقا في جبل جلود، شاب يضرم النّار في جسده في …

اترك تعليق