منطق عقيم في الرد على الموقف اللئيم
أبو يعرب المرزوقي
كنت اعجب ولا زلت اعجب ممن يعتبر الشعب التونسي مطالبا بالخيار بين المشاركة وعدم المشاركة في الانتخابات انطلاقا من عبث المشرفين عليها والساعين لجعلها من مهازل الدهر.
لكن عجبي اكبر في من يتوهم السياسة خاضعة لمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع رغم أن تجاوز هذه الخرافة قد تم منذ أن كتب ابن خلدون في فصل ولاية العهد لقلب صفحة الحروب الأهلية التي نتجت عن الفتنة الكبرى محاولة بيّن فيها مبدأ عدم التأثيم ويوضح فيه أن التعدد والتناقض من مقومات ليس الفكر السياسي فحسب بل وكذلك الفعل السياسي.
فتعدد الاجتهادات في كل قضية سياسية امر حتمي مع ضرورة تكاملها كما في كل عمل أساسه الماعون: أي تكامل الأفعال وخاصة في السياسة التي هي حصيلة عمل الجماعة كلها.
الانتخابات تعني أن من سينوب الجماعة في التعبير عن إرادتها ينتخب عن اختيارها بحرية وشفافية ونزاهة.
لذلك فالموقف من المشاركة وعدمها في هذه العملية لا يمكن أن يكون مترددا بين نعم ولا دون بيان ما يتعلق به الأمر في نعم وفي لا اللذين لا يمكن أن يكونا متعارضين بل هما متصاحبان دائما بمنطق عدم التأثيم للاجتهادات التي تحقق الغاية وإن بدت متناقضة:
- نعم لأي شيء؟ حق الترشح
- لا لأي شيء؟ استقلالية الحكم (أن يكون أمينا وعادلا) وهو هنا اللجنة المستقلة لعملية الانتخابات
- من يوجب: من له شروط تمثيل الجماعة أي القوى السياسية الفعلية
- من يسلب: فعل القوى السياسية المستعدة للدفاع عن هذه الشروط
- وكيف يكون ذلك فعليا في مجال فرض حرية إرادة الجماعة غاية ورجاحة حكمتها أداة في علاج الأمر.
في حالتنا :
- التزييف بدأ بالتعجيز لمنع القوى السياسية الممثلة حقا للإرادة الشعبية من توفير الشروط السخيفة ليقبلوا: عشرين ضعفا من التزكية بالقياس إلى فرنسا التي عدد سكانها خمسة أضاف الشعب التونسي.
- التلكؤ في مد المترشحين بالبطاقة عدد 3 ما يعني أن كل مصالح الدولة موظفة لإتمام التعجيز.
- منع تحرك المترشحين للاتصال بالشعب وذلك منع عمل الأحزاب أولا واعتماد المنقلب على الإدارة وممثلي الدولة بكل مستوياتها في تخويف الشعب من تزكية من لا يرضى عليه المنقلب: أي كل منافس جدي.
- عدم تمكين الشعب من الاطلاع على البرامج التي يمكن أن يؤسس عليها خياره لمن يفضله من المترشحين.
- أخيرا المشرفون على عملية الانتخاب معينين من أحد المترشحين أي المنقلب بحيث إنهم مستعدون لكل ما يحقق له ما يطلب سواء حضر الشعب أو غاب في الانتخابات كما حصل في التجارب الأربع التي أجروها.
وهكذا نصل إلى بيت القصيد:
الأمر لا يتعلق بالمشاركة أو بعدمها بل بفرض الشروط التي تجعل المشاركة ذات معنى ومقاومة الشروط التي تفقدها المعنى.
لذلك فأول ما ينبغي الكلام فيه ليس المشاركة وعدم المشاركة بل المشاركة التي يمكن أن تسقط الانقلاب وعدمها الذي يمكن أن يسقطه.
لأن الهدف هو إسقاط الانقلاب وإصلاح الحياة السياسية في البلاد حتى نستأنف بناء شروط الحياة السياسية الديمقراطية لكل الشعب التونسي.
لذلك وضعت الشرطين:
نشارك بشرط أن تتفق القوتان السياسيتان الكبريان على استراتيجية الإطاحة بالانقلاب مهما تحايل.
فإذا فرض حضور ممثليهما واتفقا على المصالحة التي تبقي على التنافس في الدور الأول من الانتخابات ثم تنازل احدهما للثاني في الدور الثاني فسيسقط المنقلب. وهنا لا بد من المشاركة الكثيفة في الدورين.
إذا غيبت القوتان السياسيتان الكبريان فإن المقاطعة واجبة لكنها ليست بالبقاء في البيوت يوم الانتخابات بل من الآن البدء في العصيان المدني بالدعوة إلى رفض المشاركة في الانتخابات وعدم القبول بالنتيجة المعلومة مسبقا كما هي الحال في كل الفاشيات والدكتاتوريات.
عندئذ لا أحد في العالم يمكن أن يصدق النتيجة المزيفة للانتخابات ولا احد يتصور الشعب غاب عن المشاركة لأنه غير مهتم بل هو مهتم وعبر عن ذلك قبل الانتخابات وخلالها وبعدها ولن يعترف بها ولا يستسلم للترهيب والتخويف.
ولا بد من التغيير الفعلي بإرادة الشعب وحينها فإن شوكة الدولة ستنحاز إلى الشعب ولن تواصل السكوت إلا إذا كانت هي صاحبة الانقلاب وكان المنقلب مجرد واجهة. وهو ما لا اصدقه.
فكما أن التحرير من الاستعمار الخارجي تطلب التضحيات فالاستعمار الداخلي قد يتطلب التضحيات. لكن العنف الذي لا أحد من الشعب يريده قد يأتي من المنقلب ورهطه فعليه حينها أن يتحمل المسؤولية أمام الشعب والعالم والتاريخ.
بهذا المعنى لم يبق المشكل نشارك أو لا نشارك بل طبيعة المشاركة الموجبة والسالبة في الحالتين ومن يتحمل مسؤولية التحرير وممن ينبغي التحرر وما هي مسؤولية الشعب والمؤسسات التي تمثل الدولة التي ما تزال تؤمن بالشرعية والقانون ولا تقبل العبث والفوضى التي يفرضها الحمقى بقيادة الانقلابي.
فإذا لم نؤمن بما يوجبه علينا حب الوطن والشرف والكرامة وخاصة حرية الإرادة ورجاحة الحكمة “فمحلاها فينا: كيفما تكونوا يولى عليكم”. فمن يقبل المهانة والخضوع للمافيات لا يلوم إلا نفسه.