مقالات

..وللطوفان علاقة بالأنوار

أحمد الغيلوفي

ليست الأنوار حركة فكرية تخص ثقافة بعينها وزمان بعينه، وإنما هي حسب تخريج طريف وعميق لهيجل “حالة ذهنية مخصوصة تمر بها أية ثقافة تتعرض فيها المرجعيات القديمة والثوابت التقليدية الي خلخلة شديدة بفعل أزمة عميقة”، حينها يبدأ عالم قديم في الاحتضار وعالم جديد في الظهور.

صنع الاستعمار دُويلات تابعة ووضع على راس كل واحدة سلالة أو قبيلة أو “قائد”، واستعمل هؤلاء زُمرة من السحرة والشيوخ والخطباء مُهمتهم تدجين الناس ونشر ثقافة الطاعة والولاء وتفضيل السلطة الغشوم وتصوير كل احتجاج على انه فتنة وخروج عن الإجماع والسنة. والي هذا هناك ترسانة من الأكاذيب: الدولة الوطنية، والسيادة الكاذبة تحت حماية الأساطيل والقواعد، والتدين الكاذب الذي يأمر بطاعة ولي الأمر وان كان فاسقا وفاسدا وعميلا، والاستقلال الكاذب، والحداثية بلا حداثة، والتقدمية بلا تقدم.. والمقاومة، والمعركة، وفلسطين..

الأقصى
الأقصى

عقود وهذه الدويلات تطحن الإنسان العربي باسم واحدة من هذه الأكاذيب. أذلته وشردته باسم هذه شعارات لا وجود لها أبدا.

ما أثبته الطوفان هو أن هذه الكيانات هي كيانات وظيفية في خدمة الاستعمار. هي “محطات بنزين على كل محطة عَلَم” كما وصفها الإنجليز، أو هي شركات أمنية تُعذّبُ فيها أمريكا من تصفهم بالإرهابيين وهذا حال الأردن. اقوى دولة عربية لا تقوى على فتح معبر هو مصري فلسطيني ولا دخل للاحتلال فيه.

اذا لم يوضع وجود هذه “الدولة” موضع تساؤل بعد ما نراه من إبادة، واذا لم نكتب ونفكر في تدمير هذه الدولة واستبدالها بأخرى تكون فعلا دولة وطنية وسيادية، فان “إسرائيل” تكون قد انتصرت نهائيا. إن الطوفان هو الأزمة الكبرى والفاضحة لهذه “الدولة”.

ولكل كيان وظيفي جُند من الوظيفيين: انهم “قادة راي” وشيوخ وخطباء ووعُاظ، وقوى وإعلام وأحزاب ومنظمات. في كلمة: هيلمان وظيفي. طيلة تسعة اشهر لم يحرك ساكنا: إبادة ومجاعة وتهجير وتمزيق وتدمير، وهذا الهيلمان ميّت لا حراك به. لا يمكن أن ننتظر من كيان وظيفي أن لا يكون أعضاؤه وظيفيين. سيقول الثوار التائبون: ولكن الدولة الوطنية امر واقع. نقول: حتى “إسرائيل” امر واقع، والفقر والتخلف والقهر امر واقع.

علينا ملاحظة التزامن بين “مسار السلام” الذي انتهى بـ “أوسلو” وظهور “قادة” و”شيوخ” سلطان يحضّون على الانخراط في الليبرالية وثقافة الاستهلاك و”تنمية الذات” والابتعاد عن السياسة وطاعة ولي الأمر. لقد فُتحت المنابر لعمرو خالد ووجدي غنيم ومحمد العيسى الذي شارك في اتفاقية باريس للعائلة الإبراهيمية، والسديس وعبد اللطيف أل الشيخ، والمغامسي والغامدي..

لقد عمل “وُعّاظ التلفزيون” هؤلاء على إنتاج دين إسلامي مُثقل بالطقوس والفلكلور وخال تماما من السياسة وفكرة التحرر ومطلب العدالة وواجب النقد ومعارضة السلطة. لقد توارت تماما السياسة وفكرة الجهاد -بعد أن وظفتها أمريكا ومولتها السعودية لضرب الاتحاد السوفياتي في أفغانستان- والثورة وتحرير الأرض. لقد عمل هؤلاء جميعا على إنتاج شكل من التقوى يناسب السلطة في مصر والسعودية والإمارات والأردن والمغرب، وكانت كوكاكولا وفودافون ونستلي وسمسونغ تمول المشاريع الشبابية التي يدعو لها هؤلاء “الفقهاء” (انظر: اصف بيات ما بعد الإسلامية).

لقد هاجم وعّاظ التلفزيون الربيع العربي ووصفوه بالفتنة والخراب، ثم خربوه بالفتاوي والقضايا المدمرة التي أذكت الصراع المذهبي بين طوائف تعايشت لقرون. تحالف هؤلاء مع الأنظمة القائمة ومع الصهيونية والاستعمار، بدون أن ننسى توظيف الأنظمة للقوى التي تنتحل التقدمية والقومية والديمقراطية. لقد حوربت الثورات باسم المحافظة على الدولة “الوطنية” وعلى الجيوش “الوطنية” التي ستواجه “العدو” وتحرر الأرض.

ماذا نرى اليوم؟ أين هؤلاء وهذه الشعارات وهذه الجيوش؟

لقد دفع الطوفان بالأكاذيب التي عاشت بها دولة ما بعد الاستعمار المباشر لعقود الى حتفها الأخير: سكت الشيوخ والوعاظ، ولاذت الجيوش بثكناتها تشاهد الإبادة عبر التلفاز. أما منتحلو التقدمية والناطقون الحصريون باسم فلسطين والمقاومة فهم في حيص بيص حقيقي: اذا انتصرت المقاومة سوف ينتصر “الإسلام السياسي” و”الاخوان” “التنظيم العالمي”. لذلك يصمتون الآن.

اذا لم يحمل هؤلاء الوظيفيين الى حتفهم الأخير، واذا لم نفكر في ذلك ولم نكتب في ذلك ولم ندع للتخلص منهم تكون “إسرائيل” قد انتصرت نهائيا.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock