بنت عمّي
الطيب الجوادي
لم اسمع الوالد يقول ليمّة طيلة خمسين سنة: أحبّك، ولم تقلْها له أبدا، ولكني مع ذلك استطعت رصد عشرات العبارات والتفاصيل التي تعني: أحبّك جدّا،
ولعلّ اكثر ما كان يطرب يمّة ويبث الحمرة في وجهها القمحي ويجعلها تغرس عينيها في الأرض خجلا، عندما يناديها “بنت عمّي”، هذا النداء هو قمة الحبّ بالنسبة إليها، قمّة التعلّق، قمة الذوق الرفيع، ولم تكن تتردّد هي أيضا أن تجيبه بكلّ خضوع وتعلّق ورضا: حاضرة ولد عمًي، اشرب تايك ولد عمّي، كول ولد عمّي، ساعد روحك ولد عمّي،
عندها يتسلطن الوالد، ويسوّي كبّوسه بحركة مسرحية وتنفرج أساريره ويداعب شاربيه بكلّ ثقة وتيه! لم يكن التعبير عن الحب بينهما مجرد كلمة يقع ترديدها، بل موقفا وأسلوب تفاعل، وفنّ خطاب يقع تضمينه إشارات خفيّة دقيقة توقظ المشاعر الغافية وتقرّب بينهما، ويكفي أن يأكل الوالد بشراهة لتفهم يمة انه تلذْذ أكلها ويكفي أن يشاركها الشاي لتفهم انه يحبّ الجلوس معها ومشاركتها الحديث ويكفي أن يمازحها لتفهم أنّها مصدر سعادته، ويكفي أن يرتدي البرنس الذي قضت أسابيع لتجهّزه له لتفهم أنه يثمّن جهدها، كان يكفيها -رحمها الله- أن يحمل عنها جرّة الماء وهي عائدة بها من العين، لتفهم أنه يخشى عليها من ثقل الجرّة ممْا يعني أنه حريص على صحّتها وعلى سلامتها، وأنها مهمّة بالنسبة إليه، ولم تكن تطلب من الحياة أكثر!
ولعلّ أرقى المواقف الرومانسية التي شهدتُها وأنا طفل، عندما ضبطته يبكي ويتضرّع إلى الله عندما داهمها المخاض فجأة، وتأخّر عمّي في مصاحبة القابلة الى بيتنا، كان يحرث المسافة الممتدة من الغرفة الى وسط الحوش كالمجنون، وهو يصرخ: علاش وخّر الوقت هذا لكل، بنت عمّي باش تموت، فكانت تمسك بيده وتحاول طمأنته بأنه بإمكانها أن تنتظر،،، في تلك اللحظات القصيرة تعلّمت أرقى معاني الحب التي تعجز اللغة عن التعبير عنها!