مقالات

علي العريض -المجرم رغم أنفه-

نور الدين الغيلوفي

تنويه: هذا مقال رأي.. سيقرأه البعض بتعاطف وسيقرأه البعض الآخر ويخرج منه ممتعضا، وسيكتفي منه البعض بالعنوان يخشى على نفسه من تمام القراءة. وسيقف القرّاء منه بحسب مواقعهم.

المبادئ، عندي، لا تتجزّأ.. ومن لم ينتصر لخصم له مظلوم لن يكون مفيدا لوليّ له إذا ظُلم. الظلم ظلمات.. والظلمات لا تستثني من ظُلمتها أحدا. حتّى الظالم ينال، من ظلمه، يوما. انظروا إلى نهايتي بورقيبة وبن علي.

1. حين أكتب في أحدٍ، لا أكتب تقرّبا ولا زلفى.. أكتب، فقط، في مَن كان للكتابة أهلًا.. وأكتب في المظلومين.. وبقلمي أحاول رفع شأن المقهورين.. أمّا الظالمون، فيكفيهم منّي وَضعًا تركي لهم.

علي العريض
علي العريض

2. عرفت علي العريض وشهدتُ حضوره مرّات، ولا أذكر أنّني اقتربتُ منه أو كلّمته ولا سعيتُ إلى مصافحته.. اكتفيت، في كلّ مرّة، بسماعه وبقراءة هيأته وتحليل خطابه.. كان إذا نطق أفصح وإذا تكلّم أقنع. لم أره انتهازيّا ولا منتفخا ولا متسلّقا ولا ساعيا إلى مكان غيره.. ينضبط من أمره لما أوكل به…

وحتّى لمّا غرّت بعضَ قيادات النهضة أسماؤهم وأغواهم طنينُها في آذانهم فتخلّوا ليشتغلوا لحسابها (الأسماء) بقي سيدي علي وفيّا لرِفعته منكرا لذاته في غير انسحاق. رأيته ينظر بعيدا ويخطو ثابتًا لمّا تعثّر نُظراؤه في أنفسهم وشطّت بهم خُطاهم. راح كلّ واحد من هؤلاء يشتغل لحسابه الخاصّ يحمل على ظهره خفيف ميزانه وهو يظنّ بنفسه زعامة نشأت له في وسط الضجيج، وبقي علي العريّض الزعيم الذي لم تُربكه زعامتُه.. ولم يُسكرْه اسمُه. لذلك قال فيه من قال ضعيف.

3. كنتُ قد عرفت اسم علي العريّض مذ كنتُ تلميذا بالثانويّ أو طالبا بالجامعة، لم أعد أذكر. عرفت اسم شابّ مناضل من طراز نادر.

كان يمكن للمهندس أن يعيش حياة الرغد مثل كثير من المهندسين في هذا البلد.. الذي يتخرّج من الجامعة مهندسًا في ذلك الزمن يغنم. ولكن سيدي علي لم يختر المغنم.. اختار الطريق الأشدّ وعورةً.. فسُلب جزءا كبيرا من عمره.. قضى علي العريّض سنواتٍ طويلةً من عمره خلف قضبان السجن الانفراديّ ليس له غير القرآن أنيسا في وحشة سجنه.. حكم عليه بورقيبة بالإعدام وألبسه زِيَّه انتظارًا.. وسجنه بن علي بعد أن أغرى به غلمان اليسار ينتهكون عرضه داخل سجنه “يفبركون” له الفيديوهات المخلّة بالحياء لتشويهه داخل معتقَله كما لا يفعل أقذر الجلّادين في الدنيا. محنة علي العريض كانت وصمة عار في جبين يسار وظيفيّ عنيفٍ عفِنٍ ترك كلّ أشكال الصراع وانشغل بالإسلاميين يجرّب فيهم عنترياته الجوفاء وأحقاده المستحكمة. وليس هنا مجال لمناكفة هؤلاء الذين لم يمثّلوا، في يوم من الأيّام، أكثر من عقبة في طريق هذا البلد.. وتلك مهمّتهم من وظيفتهم المستعمَلين لها.

4. لمّا انتدبته الثورة بانتخاباتها لقيادة الحكم لم يعرف سيدي علي انتقاما من جلّاديه ولا انشغل بغير إطفاء حرائق اجتمع على إضرامها في الوطن الذي انتُخب لحكمه يسارٌ عفن عنيف بوجهَيه السياسيّ والنقابيّ. عضّ الرجل على جراحه وسار بين الألغام لا يشكو ولا يسبّ ولا يلعن. ولمّا هجموا عليه بجريمتهم التي ارتكبوها في رفيقهم لم يثأر لنفسه منهم بل حافظ على هدوئه الجبَليّ. وواصل، رابط الجأش، قياد السفينة إلى برّ أمانها. وحين خرج من الحكم لم يخرج بأكثر من القلم الذي أمضى به على دستور الثورة.

غير أنّ قلمه أوغر عليه صدورهم مرّة أخرى.. أرجؤوه حتّى مزّقوا الدستور الذي يحمل إمضاءه وركلوا الثورة التي جاءت به وعبثوا بكلّ العقل لأجل إحلال أحقادهم.. ثمّ افتعلوا له ما عليه أعادوه إلى سجنه لتستقبله القضبان يطاعن الظلام وحيدًا معه صبرُه المُعاشِرُهُ.. لا يشكو.

5. علي العريض مناضل عظيم من طراز استثنائي غير أنّ طغيان أصوات الطبول جرفه إلى اجترار مظالم لو عاناها غيره لما خرج من عنائه سليما ولا عاقلا.

هذا البلد بارع في التنكيل بعظمائه والعبث بأنقيائه وبتسفيه خياره.

علي العريض إنسان كان قدره أن يولَد في بلد لا يحترم الإنسان ولا يعرف أقدار الرجال.. ولو أنّ الجغرافيا قدّرت له منشأ آخر لكان له الشأنُ الذي يليق به.

6. الخشية، كلّ الخشية، أن يتعدّى الظلم الذي يعانيه علي العريض منه إلى كلّ البلد يختلط به ماؤه ويتلوّث به يشرب منه الجميع.. فيتسّمموا إلى أجل بعيد.

علي العريض مظلوم من جهتين:

من الجهة التي حكمت عليه بالسجن في جرائم منفيه لا ثبوت لها.
ومن الجهات التي سكتت على ظلمه نكاية أو تشفيا أو لا مبالاة.

7. علي العريض سيتوفّى عمره راضيا بقضاء الله، ولكنّنا، جميعا سنظلّ نعاني، ومن بعدنا الأجيال التي تتلونا، من سواد الظلم الذي قاساه.. لدهور طويلة لن تتطهّر مياه الوطن من سواد ظلم قاساه علي العريض في ظلمة سجنه بلا جرم.

8. أمران أفهمهما من محنة علي العريض:
• الله والتاريخ اصطفياه للابتلاء يجرّ أثقال السجن، غالبَ عمره، مظلوما.
• الجهة التي حكمت عليه بالإعدام في عهد بورقيبة هي الجهة ذاتها التي حكمت عليه بالسجن الانفرادي وسعت في تشويهه وهتك عرضه في زمن بن علي، وهي نفسها التي تمعن في التنكيل به الآن. كما لو أنّها تثأر من ثباته لا تشبع من ثأرها، جوعُها روحُها.

اترك رد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock