مقالات

مهارب نخب النعام وعتاة العوام

أبو يعرب المرزوقي

1. سأل الصديق عباس شريفة: هل كان الأستاذ الشنقيطي يقصدني بكلامه على الموقف من حكم القاضي ابن العربي في مقتل الحسين مستشهدا بحكم ابن تيمية لأني سبق أن رددت على احدى خطب حسن نصر الله في احدى المناسبات عرض بموقف القاضي وحتى بموقف ابن خلدون الذي راجعه ليس لينفيه إلا في فهم العامة.

2. ولا استطيع أن اجزم أن الشنقيطي يقصدني. فلعله يقصد غيري. ولست معنيا بقصد من يعلق على الحادثة حتى لو ظن من مصلحته مراعاة إيران فيخاف من قول الحقيقة لمصلحة افهمها جيدا. لكني اعجب من تجاهل التاريخ ونسبة موقفي لطائفية يهمني بها لكأني أجهل أن دستور الرسول يضم اليهودي والمشرك في دولته.

3. ولا ألوم من يفعل مع ذلك لأن الشيخ القرضاوي وما ادراك من هو كان هو بدوره قد توهم إمكانية تحقيق التوفيق بين السنة والشيعة لتجاوز ما بينهما من صراع. ولما تبين له استحالة ذلك عجز حتى دون إقناع الكثير من النخب العربية بمن فيهم ابنه بصواب فهمه المتأخر. ولا يمنع ذلك التعامل السياسي.

4. وإذن فموقفي لا يتعلق بعقائد الشيعة بل بالتعامل السياسي مع إيران. والمعلوم أن التعامل السياسي مع أي طرف ليس علاقة مقورة الزوجية بل هي متعددة بعدة الأعداء والأصدقاء فضلا عن طرفيات العداوة والصداقة وكلتاهما في تحول لا يتوقف بحسب ما تفرضه الوضعية الجيوسياسية للأطراف ومصالحها.

5. والمعلوم أن العرب اليوم ينقسمون إلى صفين كلاهما تابع لقوتين إقليميتين في دور الأداتين المباشرتين في حلف مع قوتي التقاطب العالمي: فالهلال اغلبه تابع لإيران والقطب الشرقي والخليج أغلبه تابع لإسرائيل والقطب الغربي. والسؤال: هو كيف نفهم موقف ايران وميليشياتها من أحداث طوفان الأقصى.

6. لما كنت ليس لي ما يحول دوني والتعبير الصريح والعلني من وصف الأمر بما يلائم ما يجري بالاستناد إلى الأحداث ودلالاتها في ضوء التاريخ ومنحناه -فلا أخاف أن أفنش لأني لا اعمل في الخليج- فإني قلت رأيي وهو ليس جديد إذ كتبته في رسالة لحسن نصر الله بدليل التلميح سأل عنه الصديق عباس شريفة.

7. لا اجزم بأن الشنقيطي قصدني. لكن إذا قد فعل فهي ناتجة عن غفلة لا تليق به فقد كنت أعتبره ذكيا لكن ليس لحد الانتهازية: ذلك أن الإحالة إلى ما كتبته في رسالتي لحسن نصر الله والاحتجاج بابن تيمية كلاهما من جنس “ويل للمصلين”. فلا ابن خلدون كذب ابن العربي ولا ابن تيمية قال ما يفيد تكذيبه.

8. وما كنت لأكتب حرفا من هذه التغريدات لو لم يكن قصدي تنزيه ابن العربي عن أن يكون قد أخطأ لما قال إن الحسين قتله شرع جده وكذلك تسفيه من يتصور ابن خلدون بتعليقه قد كذبه وأن ما قاله ابن تيمية كان تكذيبا له: نعم الحسين قتل بشرع جده أي إن رؤية الرسول الخاتم لتقديم مصلحة حماية البيضة.

9. فلا يمكن لعاقل أن يخرج على الخلافة من توفر شرطين هما شرط الشرعية وشرط الشوكة. والأولى هي البيعة الحرة والثانية هي ما يسميه الغزالي شوكة معتبري الزمان (فضائح الباطنية). ابن خلدون ينفيهما كلتيهما حتى على الإمام علي ناهيك عن الحسين. فيكون الحسين بهذا المعنى قد خرج في غياب الشرطين.

10. ولا يوجد فقيه له ذرة من عقل يمكن أن يؤمن بأن الحكم في الإسلام يعتمد على غير الشرطين أي البيعة الحرة أصلا للشرعية والشوكة أصلا لاستقرار الدولة (إجماع بين الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ما أظن أحدا يرى غير ذلك إذ خلافهما يعني تدخل قوة أجنبية تفرض الحاكم الفاقد لهما كحال المحميات).

11. وإذن فأكبر علماء في تاريخ الفكر السياسي والفقهي والفلسفي أي الغزالي وابن تيمية وابن خلدون مجمعون على أن بداية التحيل على الشرطين الثابتين في القرآن (الشورى 38) وفي سنة الرسول (البيعة والدستور) تجعلان الجمع بين الشرعية والشوكة أساس الدولة للحماية داخليا (الأمن) وخارجيا (الدفاع).

12. فالخوارج الذين قتلوا عثمان هم من قتل علي وهم من عبثوا بالحسين ومن ثم فهم من دعوه للخروج ثم تخلوا عنه ولم يكن له لا شرط البيعة ولا شرط الشوكة: فيكون من ثم زعيم الخروج على شرعية الدولة القائمة حتى لو شككنا في أهلية من له البيعة والشوكة الذاتية لأن دولته ليست محمية: الدولة الأموية.

13. ذلك هو حكم ابن العربي صاحب العواصم من القواصم الذي هو غزالي الغرب الإسلامي ومنه الأندلس. فلا يزعمن احد من أدعياء الفكر السياسي التحقير من رأيه الذي لم يكن تحكميا بل هو مبني على الرؤية القرآنية والحديثية لمعنى الدولة. فمن أين جاء القول بأن الدولة الأموية ملك عضوض عديم الشرعية؟

14. قد أقبل ذلك لو أن معارضيها كانوا حائزين على بيعة شرعية وشوكة كفيلة بحماية البيضة. وهما مفقودان ليس عند الحسين فحسب بل حتى عند أبيه. فلو طبقنا الشورى 38 لاستحال أن يدعي احد أنه أولى بالحكم لعلة أخرى غير إرادة الجماعة طبيعية المؤمنة أصلا (أمر الجماعة) شوراها أسلوبا (شورى بينهم).

15. علي رفض ما طلبه عمه حول سؤال الرسول عند احتضاره عمن يوصي له بالحكم من بعده خوفا من أن يكون جوابه مخرجا لهما بالوصية ثم لم يبايع أبا بكر مدة نصف عام ثم رفض أن يلتزم بسياسة الشيخين قبله ثم قبل قتلة عثمان في صفه ثم نقل العاصمة إلى الكوفة لعدم حصوله على بيعة كافية: هذه حقائق.

16. ليست أنا قائلها بل هي في مقدمة ابن خلدون وفي راي ابن تيمية وأساس حكم ابن العربي. فمن يجرؤ على تكذيب هؤلاء العمالقة من دون أن يكون فعلا احمق أو انتهازيا. لكن فلننس الاحتجاج بالعلم والأخلاق ولنعتمد أحداث التاريخ في قضيتنا الحالية التي تتعلق بموقف إيران وميلشياتها من فلسطين.

17. سأكتفي بقراءة التاريخ نكوصيا أي من غايته إلى بدايته: هل أنا من قال إننا قد استرجعنا أربع عواصم من إمبراطورية فارس؟ ولم يذكر الأحواز لأنها نسيت؟ وهم هدم العراق؟ ومن هدم سوريا ؟ ومن هدم اليمن ؟ ومن استدعى بوتين لما هزمت الثورة السورية ميلشياته؟ ومن مول مرتزقة فاغنر وبوتين؟

18. من حالف أمريكا في العراق -فتاوى السيستاني وتهديم المراقد- ومن حالفها في أفغانستان ؟ ومن حالف الأرمن ؟ ومن حالف الاسترداديين وخاصة البرتغال (الصفوية) ضد الخلافة العثمانية ؟ ومن حالف المغول ؟ ومن حالف الصليبيين (ونحن في المغرب ادرى بذلك لان دولة الفاطميين مغاربية): أهي صدف.؟

19. هل يمكن في هذه الحالة أن تقبل إيران أن تنتصر حماس فتفقد هي ورقة الإيهام بوحدة الساحات التي تتدرق بقضية فلسطين في حين أنها مجرد ورقة للتغطية على احتلال العراق وسوريا ولبنان للوصول إلى الأبيض المتوسط فتصبح قوة عظمى وتنهي أي حلم لوحدة الأمة وهو غاية مشتركة مع الغرب عامة وإسرائيل؟

20. من يجادل في هذه البديهيات الجيواستراتيجية لا اعتبره احمق فحسب لأن الحمق مهما تكثف لا يصل إلى فقدان البصر والبصيرة إلى هذا الحد بل هو عميل للصفوية التي تريد استرداد إمبراطورية فارس كما تريد الصهيونية استرداد إمبراطورية داود: لذلك فمشروعهما واحد وهما يتنافسان على أمة فسدت نخبها.

21. المشكل أن هذا التزييف للتاريخ انتقل من الحقد الفارسي واليهودي إلى السنة عن طريق حرص السنة في البداية على تجاوز آثار الحروب الأهلية والفتنة فقبلوا بالسرديات حول ما لفق لاحقا وأخذ شكلا أفسد من التلفيق الفارسي فلا يمكن تنزيه علي من توشيه بقية الصحابة بدأ بالشيخين: قلب تهمة الانقلاب.

22. محاولة تبرئة علي لا تمر من دون اتهام من سبقه صراحة عند الباطنية وضمنا عن الإخوان والضمنية هي اتهام الدولة الأموية بكونها دولة الملك العضوض والتوصية للإبن بدأ بها علي وليس معاوية: عين الحسن خليفة من بعده دون الشرطين.

23. فإذا كان علي وهو من كبار الصحابة فقد فشل وانفرط عقد “دولته” فكيف يوصي بالخلافة لابنه ولا يعد ذلك إخلالا بشروط حفظ البيضة في حين أن محاكاة معاوية له بأن عين ابنه وليا للعهد وبويع بعده خليفة مع القدرة على حماية البيضة لا يعتبر شرعيا.؟ لا أفهم رغم أن معاوية لم يخالف الشيخين.

24. فقد كان واليا على الشام منذ خلافة الفاروق ومشاركا مع ابنه في الفتح وفي مقاتلة الروم بحيث يستحيل التشكيك في ولائهما للأمة وقدرتهما على حماية البيضة وهو المطلوب من قوامة الدولة: الكلام على شرعية عاجزة حياة للأمة ولدور رسالة الإسلام الكوني في التاريخ والفتوحات التي هي شرط الختم.

25. علي حكم اربع سنوات كانت كلها حربا أهلية بينه وبين قاتلي عثمان ثم بينه وبين المطالبين بمعاقبتهم ولم يفتح أي فتح بل إن الدولة كلها صارت في حروب داخلية متوالية وكل ذلك مناف لرسالة الفتح الذي يحرر الإنسانية من عبادة غير رب العباد.

26. ذلك هو معنى حكم ابن العربي الفقيه الكبير الذي قال مقالته الشهيرة التي لا يمكن أن يتعلق بها لعن ابن تيمية قتلة الحسين. ذلك أن قتله كان غباء: فهو كان مجرد من كل قدرة وكان يكفي تمكينه من العودة إلى المدينة واعتباره جاهلا بشروط الحكم بخلاف أخيه الذي تنازل لما علم بغياب شرط الشوكة.

27. وعندي أن من قتله كان قائد جيش يزايد على رئيسه تقربا لذوي السلطان ولم يكن من الحكمة قتله بل العفو عنه. لكن هذا خطأ عسكري لكن المبدأ يبقى صحيحا وهو أن الخارج على الدولة الشرعية وذات الشوكة لا بد من منعه بكل الوسائل لأن مصلحة الأمة في وحدتها عند الغزالي وابن تيمية وابن خلدون.

28. لذلك فمن يصف الخلافة الأموية بكونها ملكا عضوضا لأنها أوقفت الحرب الأهلية (أربعة حروب دون حسبان معارك علي مع الخوارج) إما أنه المساهم فيها جميعا أي علي أو كل الصحابة قبله كما تفعل الباطنية: وإذن فالإخوان افسد حتى من الباطنية وإن بغير وعي وجهل بمنطق السياسة كما يشرحه الثلاثة.

29. ومن قرأ المقدمة يعلم ما يقوله ابن خلدون في الدراويش الذين يتصورون توظيف الدين في السياسة من دون الشوكة لا يفهمون شروط العمل السياسي السوي: فالدين من دون شوكة لا يفعل شيئا وإن كان الدين يقوي الشوكة إذا وجدت. وليس كل من يدعيه رسول مع السند الإلهي وهو معجزة (الآية قبل الأخيرة من يوسف).

30. مرة أخرى ذلك ما قصده ابن العربي وذلك ما قصه الغزالي في الفضائح وذلك ما يقصده ابن تيمية في السياسة الشرعية التي مبدؤها هو “القوي الأمين”: فالقوة هي غاية الشوكة والأمانة هي غاية الشرعية. ولا معنى للدولة من دونهما وهو يقدم القوة وبها رفض الرسول تولية من طلبها دون شرطها.

31. ذلك هو موقفي وليس عندي دافع طائفي بل منطلقي مضاعف: منطق السياسة أولا والمنحنى التاريخي لسلوك الباطنية التي وظفت استراتيجية سن تسو لتخريب الإسلام من الداخل بادعاء الإسلام وآل البيت والمضمر هو آل بيت كسرى وليس بيت الرسول الخاتم. والله اعلم واحكم.

32. ولأختم هذه السلسلة بمقارنة عجيبة: فما فعله اليهود بالمسيحية بتوسط اللوثرية سعت إلى فعله فارس بالإسلام بتوسط الباطنية: الأولى اعتمدت خرافة شعب الله المختار والثانية اعتمدت خرافة أسرة الله المختارة. فاشتركتا في العنصرية والنازية.

33. قد لا يصدقني أحد لأن الصفوية اخبث حتى من الصهيونية لأنها تستعمل استراتيجية “سن تسو” في القضاء على من تعاديه بالتخريب الداخلي في حين أن الأولى تعتمد استراتيجية كلاوس فيتس بالتهديم الخارجي. وهما تشتركان في القول ببعدي دين العجل: معدنه وخواره. أي المال الفاسد والإعلام المضلل.

34. سيطرة اليهودية على المسيحية مكنتهم من السيطرة على العالم بتحولهم إلى فيروس يمتص دم العالم بدأ بدم من تأمرك من المهاجرين البروتستانت والباطنية تريد السيطرة على الإسلام للتمكن من السيطرة على العالم بتحولهم إلى فيروس يمتص دم المسلمين بعد تشييع حمقى العرب واحتلال مكة. الحمقى نيام.

35. وأخيرا فبعد اتهامي بالطائفية سمعت بعض الحمقى في تونس يتهموني بكوني عميل للأنظمة الخليجية لكأنه يوجد نظام خليجي له القدرة على التفوه بما يغضب إيران فيسترزق أحدا لفعل ذلك. لكن ما الحيلة مع من يقيسون غيرهم على نذالتهم: فليس للحمق والدناءة حد عند الكثير من نخب العرب.

36. كلنا نعرف “البير وغطاه” فخوف كل الأنظمة الخليجية من إيران وخوفهم من بعضهم البعض هو أساس فكرهم وهم يدفعون لها الجزية سرا وجهرا بحيث إنها تحارب العرب بالعرب وتموله بالجزية والخمس. وقد لاحظت هذا الخوف كلما تفوهت برأي في حوار مع الكثير من العاملين هناك حول طغيان الرعب من إيران.

37. وسيزداد ذلك بعد أن هزمت حماس إسرائيل التي كانوا يعتقدونها قادرة على حمايتهم من إيران فإذا هي أعجز من أن تحمي نفسها ليس من إيران لأنها ليست عدوتها بل من ثورة الشعب الفلسطيني الذي قرر أن يتحرر فعلا. بعد أن يئس الفلسطينيون من الأنظمة العربية.

38. فهموا لعبة إيران بحيث من لم يفهم أن وحدة الساحات هي لحماية النظام الإيراني حتى لا يكلفها التنافس مع إسرائيل على دور الشرطي في الإقليم وليس لتحرير فلسطين ليس إلا غبيا. لذلك اعتمدت حماس على الله وعلى نفسها ولم تعلم أحدا بما أقدمت عليه ما جعلهم يتبرؤون من فعلتها صراحة.

39. ويبقى دور المناوشات التي تخاض للمحافظة على مصداقية سردية الورقة الفلسطينية للتغطية على مشروع استرداد إمبراطورية فارس التي تحقق الكثير منها في الأهواز ثم في الهلال وحتى في الخليج. وتلك هي علة خشية إيران من الطوفان ومثلها الأنظمة العربية اكثر من إسرائيل التي يحميها الغرب كله والخذلان العربي والتخابث الإيراني.

40. وستبين الأحداث ما أقدمه: لإن إسرائيل هي بدورها تريد استرداد إمبراطورية داود وقد عرضوا خارطتها وهي علة الخصومة بين طالبي الثأر من العرب والمسلمين: إيران باسم الأكاسرة وإسرائيل باسم دولة إسرائيل.

41. والعيب ليس فيهما ولا في الغرب بل في نوم العرب الذين كانوا أول من تخلى عن وحدة جغرافية الإسلام ووحدة تاريخه وتصوروا أن فتات سايكس بيكو يمكن أن يؤسس لدول ذات سيادة بديلا من محميات خاضعة للبيادة..

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock