هل الصحفيون من أولي الأمر؟
سامي براهم
قد يبدو السّؤال غريبا ومستنكرا إذا نزّلناه في سياق تفسير الآية الكريمة التي تأمر بطاعة أولي الأمر عطفا على طاعة الله ورسوله النّساء 59.
لكن للسّؤال سياق طريف أثير في كتاب “العالم والزّعيم” للدّكتور احميدة النّيفر منشورات نماء وهو جمع لمذكّرات جدّه فضيلة الشّيخ محمّد البشير النّيفر ومراسلاته مع الزّعيم الحبيب بورقيبة كما ورد في عنوان الكتاب تتخلّله نصوص للمؤلّف الذي اعتبر تاريخ المذكرات والمراسلات يوثّق لما أطلق عليه سنوات احتضار المؤسّسة الدّينيّة.
بداية من الصّفحة 178 من الكتاب شهادة لافتة عن مراسم ختم الحديث النّبويّ الشّريف بتاريخ 26 رمضان 1376 / 1957 الذي حضره رئيس الحكومة وقتها الحبيب بورقيبة وأعضاء الحكومة وعميد الجامعة الزيتونيّة الشيخ محمّد الطّاهر بن عاشور ومفتي الدّيار التّونسيّة الشّيخ عبد العزيز جعيّط وإمام الجامع الأعظم الشّيخ محمّد البشير النّيفر رحمهم الله جميعا، وقد عرّج الشيخ النّيفر على موضوع من هم “أولي الأمر” المحال عليهم في الآية والذين تجب طاعتهم، ممّا أثار نقاشا بينه وبين عميد الزيتونة والمفتي تدخّل فيه رئيس الحكومة نفسه في تغطية إذاعيّة مباشرة.
وكان رأي الشّيخ النّيفر المشرف على الختم أنّ أولي الأمر الذين تجب طاعتهم هم الأمراء والعلماء والمجتهدون، بينما ذهب فضيلة المفتي إلى ما ذهب إليه رشيد رضا من اعتبارهم أهل الحلّ والعقد مع توسيع دائرتهم لتشمل القادة والزّعماء والمفكّرين وحتّى كتّاب الصّحف. أمّا عميد الجامعة الزّيتونيّة فرأى أنّهم كلّ من بين يديه ولاية أمر من أولي الأمر في حدود ذلك الأمر، فالمدير في مدرسته وليّ أمر تجب طاعته في ميدانه، ومثله غيره في الميدان الذي يتولّى الأمر فيه.
وتدخّل رئيس الحكومة في المناقشة ليؤيّد رأي عميد الجامعة الزّيتونيّة معتبرا أنّ جملة أولي الأمر هم مجموع أعضاء المجلس النّيابي الذين تجب طاعتهم عند اتخاذهم قرارا. وقد أيّده في ذلك الشّيخ الطّاهر بن عاشور مضيفا أنّه يكفي أن يصدر القرار من الأغلبيّة لتجب طاعته لأنّ لهم الولاية في ذلك من الأمّة التي اختارتهم.
وقد غطّت جريدة الصّباح في اليوم الموالي هذه المناقشة التي لا سابق لها في تقاليد ختم الحديث النّبوي وعلّقت على التّفسير المبتكر لفضيلة المفتي الشيخ جعيّط بما نصّه:
“ونحن بوصفنا صحفيين لا نطلب إلى النّاس أن يطيعونا فيما نعبّر عنه من رأي أو توجيه، ولا نحبّ أن نتمتّع بما يمنحه لنا الشّيخ جعيّط من حقوق لا حقّ لنا فيها. إذ كلّ ما نرغب فيه هو أن يستمع القرّاء إلى القول فيتّبعون أحسنه عن تدبّر وإدراك لا عن طاعة وتسخير، فقد تزلّ بنا وبأمثالنا من النّاس القدم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ونعتقد أنّ الآية الكريمة لا تحمل هذا التوسّط المشطّ الذي لم يوفّق فيه الشّيخ المفتي حفظه الله وقد برّأنا أنفسنا ممّا خلعه فضيلة الشّيخ المفتي علينا، وذلك هو واجبنا الدّيني والوطني نجهر به والله من وراء كلّ قصد”.
بعد استعراض هذا الجدل الطّريف في رحاب جامع الزّيتونة المعمور، من محراب ختم الحديث النّبويّ الشّريف في آخر سنة جامعيّة للجامعة الزّيتونيّة قبل إغلاقها وبحضور رموز المؤسّسة الدّينيّة والسياسيّة، وبعد التوقّف على ما أثاره هذا الجدل من قضايا تعبّر عن وعي رجالات “المؤسّسة الدّينيّة” وثقافتهم وعلاقتهم بالواقع وتحدّياته وقضاياه الحادثة زمن تأسيس دولة الاستقلال، يطرح السّؤال عن وجاهة اعتبار المؤلّف الفترة التي دوّنت فيها تلك المذكّرات سنوات احتضار المؤسّسة الدّينيّة والحال أنّها تعكس من خلال هذه المناقشة ما شهدته تلك المؤسّسة من حيويّة فكريّة ومواكبة للمستجدّات، إلّا إذا كان المقصود الاحتضار جرّاء اغتيال هذه المؤسّسة عوض تطويرها وتفعيل دورها الوطني والتربويّ والعلمي.