مقالات

ثأر من الثورة والمقاومة *

زهير إسماعيل

احتلّت قيمة الحريّة المركز في أدبيّات حركة التحرّر الوطني الفلسطيني، وارتبطت بتحرير الأرض والمقدّسات المغتصبة. ومن حين لآخر كانت تطلّ فكرة تحرير “الإنسان الفلسطيني” أو هو “الإنسان العربي” في الأدبيّات الوحدويّة. ولا تتجاوز عبارة “تحرير الإنسان” في هذه الأدبيات مدلولها الذي شاع في خطاب نظام الاستبداد العربي إلى الإنسان في فرديّته واستقلال كيانه وإرادته.

المقاومة
المقاومة

ولم يمنع مناخ الاستبداد والفكر الجماعي الذي لا يمنح الفرد “مساحة حراما” هي مجاله الحميمي وعالمه الخاصّ من ظهور وعي بأنّ تحرير الأرض لن يكون إلاّ بإنسان حرّ. وتطوّر الوعي بالفكرة مع خيبات نظام الاستبداد العربي وانكساره أمام دولة الكيان الوظيفيّة في هزائم عسكريّة كبرى مذلّة. فصارت فكرة تحرير الإنسان من خطاب الحركة السياسيّة والحقوقية المطالبة بالديمقراطيّة.

مع الربيع وثورته اكتملت الفكرة لتتطوّر إلى الوعي بضرورة تلازم المقاومة والمواطنة. وكان هذا بمثابة النهج الثالث المجاوز لنهجي المساومة والممانعة في نظام الاستبداد العربي. فكان الجمع في شوارع الثورة وميادينها بعد 2011 بين مهمّة “إسقاط النظام” ومهمّة “تحرير فلسطين”.

فحين نتحدّث عن معاقبة الثورة والمقاومة فإنّنا نعني ثورة الحريّة والكرامة والمقاومة في غزة وفلسطين.

وأد الثورة**

امتدّت الثورة التي انطلقت من تونس إلى المجال العربي غير أنّها خصّت دولا بعينها هي مصر وليبيا وسورية واليمن. والمشترك بين هذه الدول أنّها عرفت تحوّلا مهمّا في الحياة السياسيّة فيها من الفرز على قاعدة الإيديولوجيا إلى الفرز على قاعدة الحريّة. فعرفت سوريا ربيع دمشق 2000 ومصر حركة كفاية 2004 وتونس حركة 18 أكتوبر 2005 واليمن الحراك الجنوبي2007.

وشهدت ليبيا بداية عمليّة إصلاح عبر مشروع “ليبيا الغد” الذي كان ثمرة لقاء لم يعمّر بين السلطة والمعارضة.

ومن جهة أخرى فإنّ هذه الأقطار عرف معظمها عمليّة تحديث توصف بالقسرية والفوقية دشًنتها دولة الاستقلال ونخبها وكان لها أثرها على نسبة النمو ودخل الفرد ونسبة التمدرس وما رافقها من توترات دورية وحركات احتجاجية تعبّر عن أزمات هيكلية في تجربة ما سمي بالدولة الوطنية وإيديولوجيتها.

وبرزت في هذه التعبيرات السياسيّة والحقوقيّة في مراحلها الأخيرة زعامات سياسيّة وقيادات فكرية وأكاديميّة معارضة مثل محمد المنصف المرزوقي بتونس وعبد الوهاب المسيري بمصر وميشيل كيلو بسورية.

وكان مصير هذه الثورات الإجهاض فتم تحويل الثورة في اليمن وسوريا إلى حرب أهلية بعد النجاح في تطييفها وتسليحها. ولئن عرف اليمن حربا طاحنة بين مكونات المشهد السياسي والقبلي والمناطقي فإنّ الانتقام الذي لحق بالشعب السوري كان غير مسبوق فقد بلغ ضحايا الحرب الأهليّة حوالي النصف مليون وشُرّد ملايين السوريين في أصقاع العالم. ولعب الإرهاب والتدخّل الإقليمي (تركيا، إيران) والدولي (الكيان، الولايات المتحدة، روسيا) دورا رئيسيا في وأد الثورة، وتكفّل الصهاينة العرب بالدعم المالي والإعلامي. سورية التي كانت نطبّ الثورة القاتل شهدت أرضها “حربا عالمية” كانت محصلتها أنّ سورية اليوم محتلة من خمس دول إقليميّة ودوليّة. وكان هذا من الأشنع من أنواع العقاب التي طالت الربيع.

وعرفت ليبيا انتقالا ديمقراطيّا لم يعمّر أكثر من سنتين رغم التوصّل إلى انتخاب المؤتمر الوطني العام (مجلس تأسيسي) والشروع في كتابة دستور جديد لليبيا. وفي مصر تمّ الانقلاب على نتائج الانتخابات بواسطة عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع في السنة الثالثة من الثورة. وكان ميدان الاعتصام برابعة مسرحا لمجزرة بشعة في حقّ متظاهرين سلميين. وفي تونس انتهت عشريّة الانتقال بانقلاب على الدستور والديمقراطيّة المتعثرة قاده الرئيس قيس سعيّد الذي كان مرشّح قوى الثورة وتيّار بناء الديمقراطيّة. وقد مضى على انقلابه ثلاث سنوات أمكن له بدعم من الدولة وأجهزة طي صفحة الانتقال الديمقراطي والزج بقيادات الحركة الديمقراطيّة في السجون.

الانتقام من المقاومة

حين قامت الثورة لم تكن المقاومة في وضع يسمح لها بالتفاعل مع الهزّة التي أحدثتها الثورة. وكان أقصى ما يمكن أن تأمل هو أن تساعدها الثورة على رفع الحصار عنها في غزّة. وقد أمكن، مع نجاح الإخوان المسلمين في انتخابات مصر البرلمانيّة، وفوزهم بمنصب رئاسة الجمهوريّة، التخفيف من وطأة الحصار، وتمكّنت غزّة من أن تدخل كلّ ما تحتاجه. وكانت المقاومة استفادت على مدى سنتين من الوضع الجديد في مصر مع ثورة 25 يناير، ويبدو أنّها تمكّنت من إدخال جانب ممّا تحتاجه من أسلحة ومن مواد صنعها وحاجتها إلى مواد بناء التحصينات (الأنفاق).

وبعد الانقلاب على الديمقراطية في مصر عرفت غزة عودة قويّة للحصار، وكان التخابر مع حماس من بين التهم التي وجهت إلى الرئيس مرسي الذي قضى في قفص الاتهام وهو يمثل أمام القاضي. ويتواصل اليوم حصار غزة مع حرب الإبادة التي يشنها الكيان عليها ردّا على عملية طوفان الأقصى.

بعد خمسة أشهر من الحرب تمكّنت المقاومة من الصمود في وجه جيش الاحتلال في حربه على غزّة، ونجحت في تهشيم أهم ألويته. ومثّل هذا صدمة لقيادة أركان جيش الاحتلال وللإدارة الأمريكيّة شريكه الكامل في العدوان على غزّة.

تُقاتل المقاومة في غزة المحاصرة لوحدها العالم. وتنجح في كسر جيش الاحتلال وتأكيد عجزه عن تحقيق أهدافه في تحرير أسراه وتدمير بنية المقاومة العسكرية. ولكن حجم الدعم العالمي السياسي والعسكري المتواصل للعدوان، وإطباق الحصار على غزة، وصمت المنظمات الدولية وخذلان ذوي القربى وخيانة المطبّعين منهم أطلق يد جيش الكيان في استباحة المدينة للشهر الخامس على التوالي بالقتل والترويع والتجويع.

والمحصلة إصرارٌ على كسر ظهر المقاومة وقهر حاضنتها وفرض معادلة تحول دون هزيمة جيش الاحتلال (تعطيل وقف إطلاق النار) وتمنع المقاومة من تصريف صمودها في فرض شروطها على طاولة المفاوضات (إيقاف العدوان، انسحاب جيش الاحتلال، أفق للحل السياسي العادل)، وقد تضطرها إلى التسليم باتفاقات مؤلمة جدّا.
موجع أن يتواصل دفع المشهد قُدُما إلى في مثل هذه المآلات القاسية.

أكثر من استراتيجيا

تُسلَّط أضواء قويّة على المجال العربي منذ اندلاع الربيع. وزاد التركيز على المنطقة مع عمليّة طوفان الأقصى التي أعادت قضيّة فلسطين إلى صدارة اهتمامات العالم، بعد أن تمّ تهميشها والاستعداد لدفنها على يدي اليمين الصهيوني المتطرّف بتوسعه الاستيطاني، ومَكنت غزّة لأوّل مرة من أن تُسمِع الدنيا صوتها وأن تشدّ انتباهها لكي يُنصت إلى قصتها من خارج السرديّة الصهيونيّة.

الثورة والمقاومة تجمعان بين استهداف الاستبداد والاحتلال وتعدّانهما وجهين لحقيقة واحدة. ومع ذلك لم يتزامن التصدّي لهما باعتبارهما عاملين أساسيين في عجز المجال العربي عن بناء كيانه السياسي الجامع على غرار المجالين الجارين التركي والإيراني. ولم يكن من هذين المجالين الجارين مساعدة له على القيام الكياني، وأراداه منطقة فراغ لتوسيع نفوذهما في إطار صراع المصالح مع استراتيجيات الهيمنة الدوليّة، فاختارت إيران في المواجهة بين الثورة ونظام الاستبداد العربي بداية من 2011 الوقوف إلى جانب نظام الاستبداد في سوريا باسم حماية ظهر المقاومة رغم موقفها العام المحتفى بالثورة، واختارت تركيا الإبقاء على علاقتها السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة مع دولة الاحتلال. وفي هذين الموقفين صدام استراتيجي مع المهمة المزدوجة (إسقاط النظام، تحرير فلسطين) التي طرحتها الثورة بصيغة “الشعب يريد”. ويظهر ذلك في إبقاء تركيا أردوغان (خليفة المسلمين عند البعض) على علاقتها بكيان الاحتلال ودعم التبادل الاقتصادي والعسكري معه حتى وهو يحاصر غزّة ويجوّعها ويقتل كل أسباب الحياة فيها. كما يظهر في التزام إيران من خلال أّذرعها في المنتسبة إلى محور مقاومة بقواعد اشتباك مع الولايات المتّحدة والكيان متّفق عليها قبل الطوفان وقد تتواصل بعده بناء على نتائج هذه المنازلة الكبرى بين المقاومة الفلسطينيّة والكيان المحتلّ.

ومن المهمّ التشديد على أنّ إيران في صراع نفوذ فعلي مع الولايات المتحدة وإسرائيل غير بعيدة عن صراع أشمل مع فاعليه الأساسيين في الضفة الأخرى (روسيا والصين). ولا يمكن أن يقاس موقف إيران وأذرعها من طوفان الأقصى والحق الفلسطيني إلى موقف العرب الصهاينة وإنما يقاس إلى عنوان المقاومة الذي ترفعه وتدعم ممثّليه. ولا شكّ في أنّ حزب الله الذي حرّر الجنوب سنة 2000 وكسر شوكة جيش الاحتلال في حرب تموز 2006 خاض حربا دامية كانت ضريبتها الدم ولكنها حرب ضمن الإستراتيجيا الإيرانيّة.

على مفترق طرق

وإذا كان طريق القدس يمرّ عبر القصير وحلب كما تقرّر عند حزب الله فإنّ فلسطين، وهي الأصل، اليوم على مرمى حجر، وقد تمّ “تأمين ظهر المقاومة من الجماعات التكفيريّة في سوريا!!”. فيقوم السؤال حول دور ترسانة صواريخ الحزب الدقيقة والذكيّة القادرة على الوصول إلى كل فلسطين المحتلّة وضرب أهمّ قطاعات العدو الاستراتيجيّة، والتي يشار إلى أنّها من أجل فلسطين أوّلا وآخرًا: هل ستبقى في مخازنها والمقاومة في غزّة والضفّة تذبح وقد تُصفّى إلى الأبد؟!!. وسيواجه “غباء” هذا السؤال بأن الأمر موصول بالاستراتيجيا ولا علاقة له بالـ”الفزعة” وعاطفتها، وقد لا يكون التدخل المطلوب في صالح المقاومة، في هذه المرحلة من المواجهة، بل قد يكون في صالح العدو المنكسر جيشه والساعي إلى توسيع الحرب ليذيب هزيمته في مواجهة إقليمية.

وحتّى لو قُبل هذا الردّ على أنّه مجرّد تقدير، فإنّ السؤال يبرّره منطق الجهة المعنية بالسؤال وخطابها الذي يعجز اليوم عن مغادرة موقع “التبرير والاعتذار” دون أن تكون له الشجاعة للإفصاح عن استراتيجيته. وصراع النفوذ الإيراني الأمريكي في المنطقة وعليها حقيقة كشفت المقاومة في فلسطين والحرب على غزة عن حدوده ورهاناته.

لذلك نحن أقرب إلى التقدير الذي يرى بوجود استراتيجيّتين استراتيجيّة المقاومة والاستراتيجيّة الإيرانيّة، وتحاول كلّ منهما استيعاب الأخرى ضمن مسارها في مواجهة الكيان. وهذا ما تدركه المقاومة في غزّة وتعيه استراتيجيّا وتعمل ضمنه فتضع دعم حزب الله والحوثيين بدرجة أولى ضمن استراتيجيّتها لكي ينفتح “اليوم التالي” على سؤال “غزّة ما بعد الكيان؟” وليس سؤال “غزة ما بعد حماس؟”.

وفي نهاية الأمر لا شيء يمنع من أن تعبّر إيران عن “الأمة” نيابة عمّن يرى في نفسه الأجدر بالتعبير عنها. والأصل أن يكون لكلّ مكوّن من مكوناتها نصيب ودور في التعبير عنها حتّى لا يتوهّم أحدها بأنه بديل عن الجميع.

مثل هذا الرأي وما يحمله من تفاصيل تتوسّل بالتحليل ومعطيات الإستراتيجيا هو رأي من ينتسبون إلى النخب، وأمّا الناس وعامتهم فإنهم يثمّنون موقف إيران من خلال أذرعها في ظل تواطؤ النظام العربي الغالب وقعود “الجماهير” المثير.

القضيّة الفلسطينيّة على مفترق طرق حقيقي، والمصير منفتح على أكثر من مآل. وينطبق هذا الأفق كذلك على مستقبل بناء الديمقراطيّة.

“هناك” انتصرت المقاومة في المواجهة الميدانيّة وكسرت جيش الاحتلال ولم يبق منه سوى آلة قتل تستهدف حاضنة المقاومة من المدنيين العزّل وتغطّي على هزيمتها، و”هنا” سقط الاستبداد رغم أنّه لم يرحل وتطورت الأزمة المركبة وقد بنى شرعيته على الخروج منها إلى نكبة وطنية فتأكّد أنّه غير قادر على إعادة إنتاج نفسه، ولم يبق منه غير آلة عبث بما بقي من مقدّرات البلاد واستباحة من بقي من المدافعين عن استعادة الديمقراطيّة ومسارها.

هنا وهناك هو ثأر من الثورة والمقاومة معا وانتقام على درجة عالية من التشفّي والرغبة في الانتقام. ولكنّ كل ذلك قد يفضي إلى تزامن الثورة والمقاومة هذه المرّة وإن كانت استقالة “الشارع العربي” المخزية وصمْته عما يجري في غزّة لا يوحيان بذلك.

وإلى جانب فعل الإبادة الجماعيّة الذي يمارس على المقاومة وحاضنتها في الضفة وغزّة والداخل اليوم، والقمع النسقي الذي مورس ويمارس على قوى الثورة في مصر وسوريا واليمن وفي كلّ مدن الربيع وساحاته، فإنّ خطابا آخر من التشفّي مارسته الولايات المتّحدة راعية مهمّة الانتقام من الثورة والمقاومة. فخطاب الراعي السياسي والإعلامي عن الانقلابات التي كان وراءها أو زكّاها لا يختلف في شيء عن خطابه عن الحرب على غزّة.

كان يؤكّد، بعد كل انقلاب على مسار الثورة والديمقراطية الناشئة، على ضرورة احترام القائمين عليه الحريّات والمؤسسات والديمقراطيّة دون أن يسمّي الانقلاب انقلابا، ودون أن يدقق في طبيعة المؤسسات هل هي المؤسسات الديمقراطيّة والدستوريّة المنقلب عليها أم المنصبة من الانقلاب. مثلما كان منه “تشديد” أثناء الحرب على غزّة على واقعية الأهداف ودقة الخطط العسكريّة في قصف المدينة المكتظة “رأفة” بالمدنيين، على قاعدة منحه المحتل المعتدي حق الدفاع عن النفس دون أن ينطق بعبارة “وقف أطلاق النار” أمام جرائم الإبادة الشاملة التي تنقل على المباشر. وكان من أقسى ضروب التشفّي وأحطّه إشهار الراعي الأمريكي ورقة الفيتو في أكثر من مناسبة في وجه الأغلبيّة في مجلس الأمن الداعية إلى “وقف إطلاق النار” في غزّة.

الحروب والصراعات السياسية، باعتبارها “تبادلا معطّلا” أو “تبادلا عنيفا”، تنتهي في الغالب إلى منتصر ومنهزم، لتستأنف الحياة على ضوء نتائجها، وهذا دليل على أنّها لا تنفصل عن القيمة ومن ثم عن فكرة الإنسان مهما بلغت حدّتها، ولذلك توضع لها “قواعد” و”وقوانين”.

ولكن يبدو أنّنا إزاء جيل من حروب متوحشة على الشعوب المستعمرة وصراع سياسي بلا مرجعية لا يُعترف فيهما للمنتصر بانتصاره وإن كان جزئيا ولا يُسلّم فيها المنهزم بهزيمته وإن كانت مرحلية. هي حروب وصراعات منزوعة الإنسانية.

••

**مقالنا بألترا تونس بتاريخ 28 فيفري 2024، مع بعض التصرّف.
** غضضنا الطرف عن الأسباب الذاتية لفشل الثورة بناء الديمقراطية وهي عديدة وركزنا على الأسباب الموضوعية لوأدها باعتبارها موضوع المقال.

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock