مقالات

جامعة المحميات العربية

سر المسار المدبر في حضارة العرب من مسار التوحيد إلى مسار التفريق؟

أبو يعرب المرزوقي

1. فلنحاول فهم ما يجعل كل الأنظمة العربية بحاجة إلى حماية أجنبية ورمزها القواعد الغربية والشرقية إما مباشرة أو بمن يمثلها في الإقليم العربي : أي إما مباشرة بقواعد أمريكا وتوابعها من الغرب أو قواعد روسيا وتوابعها من الشرق أو بإسرائيل وبإيران؟ ولست بحاجة لإثبات وجود نوعي الحماية.

جامعة المحميات العربية
جامعة المحميات العربية

2. لذلك بالظاهرة لا يمكن أن ينفيها أحد والخلاف إذن لا يتعلق بوجودها بل بعللها. أي ما علة هذه الحاجة العامة من الماء إلى الماء في ما يسمى بـ”جامعة الدول العربية”. حقيقتها: “مانعة لحماية شعوبها” حقيقتها الصادقة تكذب ظاهرها المخادع: فهي محميات تستعبد شعوبها بالاعتماد على حماة أنظمتها.

3. لكن لو اكتفينا بهذا التفسير البسيط لكان الرأي المتسرع مجحفا بالحقيقة الأعمق التي تتوسط بين “الدولة” و”المحمية” أولا وبين “حماية الشعوب” و”حماية الأنظمة” ثانيا وما يجعل النقلة من الدولة إلى المحمية ومن حماية الشعوب وحماية الأنظمة وحتمية استخراج الوسائط بين الحدين في الحالتين.

4. فالوساطة بين الدولة والمحمية والوساطة بين حماية الشعوب وحماية الأنظمة كلتاهما شديدة التعقيد لأنها تستمد شروط حصولها من استراتيجيات جعلتها تكون على ما هي عليه بحيث تبدو وكأنها شبه حتمية تاريخية فرضت على الإقليم بتدرج علينا تحديده بصورة تمكن من علاج الأدواء العميقة لمداوتها فعليا.

5. لا يمكن الكلام على الفرق بين الدولة والمحمية من دون بيان الشروط التي بفقدانها بزول معنى الدولة فينشأن معنى المحمية أي تحول ما يسمى دولة إلى ظاهر من الدولة اسما دون مسمى يعتمد على دولة فعليه هي التي تحمي إزالة حقيقة المسمى بالحفاظ على اسمها الذي يجعلها بالجوهر محمية خاضعة للحامي.

6. تعريف الدولة السائد هو “شعب وأرض وحكم”. وهو بحد ذاته كاف ليكون مصدر الخلط بين الدولة والمحمية. لذلك فأول داء هو غياب ما يصل الشعب بالأرض وما يصل الأرض بما قبلها وبما بعدها في مقومات حدها: ملكية الأرض للشعب حصريا وحكم الأرض للشعب حصريا. وهما شرطا السيادة أي الحصريتين ملكية وحكما.

7. والملكية الحصرية تعني حق الحوز والتصرف في ما تستمده الجماعة من الأرض والحكم الحصري تعني واجب منع الغير من حوزها والتصرف فيها إما مباشرة أو بوسطاء هم من يدعون كذبا تمثيل إرادة الشعب المالك والحاكم حصريا دون سواه مباشرة أو بتوسط الأنظمة التي تحتاج لحماية الحامي الأجنبي وقواعده.

8. وحتى يحافظ الحامي على سلطانه فلا بد من أن يفتت جغرافية الشعب الواحد ليصبح شعوبا في حرب أهلية جعلت من مسار التاريخ العربي ينكص من التوحيد الذي بدأه الصديق بتوحيد الجزيرة إلى الحال الراهنة التي أعادت العرب إلى صراع القبائل بحيث إن علة الاحتماء من بعضهم البعض بعدوهم الذي فتتهم.

9. ولما كان ذلك يقتضي أن يشفع التفتيت بالتشتيت التاريخي حتى يصبح الفتات الجغرافي مستمدا شرعيته من الشتات التاريخي فتصبح كل قبيلة أو إمارة ذات تاريخ يزعم قوميا في حين انهم فتات نفس القوم الذي سبق توحيده لإخراجه من الفتات المتقدم على التاريخ الإسلامي: الأمة الواحدة صارت “أمما”.

10. وهذا النكوص والإدبار إلى ما قبل تاريخ الإسلام لإضفاء الشرعية على الفتات الجغرافي نجح في نكوص أخطر خلال ادعاء إعادة الوحدة المؤسسة على القومية في تفتيت الجغرافيا الإسلامية التي تستمد وحدتها الحضارية المتعددة من تجاوز القوميات إلى الوحدة الروحية ممثلة بتاريخ الإسلام: القومية.

11. فصار الأمر في كل فتاتة من الأرض التي تعربت بفضل الإسلام مع المحافظة على ثقافتها ولغتها وتراثها الشعبي إلى قومية هي بدورها حربها مع العروبة الحضارية الجامعة إلى صراع قوميات ذات تواريخ متنافية مع الإسلام موحدها مع صراع الطوائف الناتجة عن تأجيج الخلافات بين الأديان وفي نفس الدين.

12. وبذلك تضاعفت علل الضعف بسبب التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي فتعمقت الفتنة الكبرى (في صدر الإسلام) وانضافت إليها الفتنة الصغرى (في غاية الانحطاط) بجرثومة الدولة المزعومة قومية ووحيدة الإثنية ببديل العلمانية من الإسلام الذي صار يعد إيديولوجيا استعمارية تتحرر منها القوميات.

13. فأصبح حتى من هم عرب عرقيا وليس ثقافيا فحسب يتبرؤون من العروبة والإسلام فصار العراقي بابليا والسوري فينيقيا والمصري فرعونيا والتونسي قرطاجنيا وهكذا دواليك إذ حتى أهل الجزيرة فإنهم صاروا يبحثون عن قوميات عرقية غير عربية اللهم لعلها بنغالية وهندوسية وربما إسرائيلية لتبرير الحمايات.

14. ولما كان ذلك كله يحصل في أذهان النخب الحاكمة بالشوكة المحمية والنخب التي تخدمها ب”شرعية إيديولوجية” أو ثقافة علمانية وعرقية كلها منافية للوحدة الجغرافية والتاريخية فإن الشعوب التي ما تزال متمسكة بالوحدة الروحية تجعلها تعتبر النخبتين أجانب مثل الاستعمار الذي يحمي استبدادهم.

15. وبذلك تصبح كل محمية عاجزة على وظيفتي الجماعة والدولة: فالجماعة تصبح عاجزة عن رعاية ذاتها وحمايتها فلا تكون ربة الأرض ولا حاكمتها لأنها جمعت شرطي العجز عن إنتاج الثروة والتراث وكلاهما يتطلبان حجما مناسبا للعصر الذي تحكمه الإمبراطوريات القادرة عليهما لما يتطلبانه من شروط القوة.

16. فيكون ما يخيف الحكام فيجعلهم بالجوهر تابعين للحامي مضاعفا: الخوف من شعوبهم والخوف من أجوارهم الذين هم إخوتهم أحيانا عرقيا وأحيانا حضاريا بحيث إن مفعول التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي يحقق مفعوله بجعلهم في حرب أهلية دائمة داخل المحمية الواحدة وبين المحميات: فتات توابع عزلاء.

17. ولعل ابرز دليل على ذلك ما يجري في المعركة الجارية حاليا بعد ثورة طوفان الأقصى. فهي فضحت امرين: الأول هو التجلي الأوضح للخوفين السابقين بخوف من عدوى الجرأة التي لم تكتف بإنهاء خرافتي إسرائيل العسكرية والحضارية وخرافتي الغرب والشرق في آن: تبعية الحكام لمافيات دولة عالمية عميقة.

18. وهنا يبرز خوف رابع هو ثورة شباب العالم كله بالانحياز إلى أصحاب ثورة الطوفان الذي فتح بصائرهم إلى أنهم في وضعية لا تختلف عما يعيشه الفلسطينيون ما جعل ما يحدث في فلسطين شبه صورة مصغرة مما يحدث في العالم كله: سلطان دين العجل بمعدنه وخواره هو جوهر مافية الدولة العميقة العالمية.

19. وذلك هو جوهر ما شخصته ثورة الإسلام التي تضمنتها سورة هود وأخواتها أي ما اعتبره الرسول مشيبا لرأسه: اعني أبعاد ثورته السبعة والحل الحاسم للتغلب على دين العجل ببعديه أي ربا الأموال وربا الأقوال: العملة والكلمة لم تبقيا أداتي تبادل وتواصل بل صارتا سلطانين على المتبادلين والمتواصلين.

20. وهذان السلطانان هما أساس عبادة العباد للعباد بدلا من عبادة رب العباد: وذلك هو الفرق بين الفتح والاستعمار. شعار الفتح هو تحرير العباد من عبادة العباد بعبادة رب العباد. والاستعمار العكس تماما. وفهم البشر لذلك هو عين الاستئناف وعودة الأمة إلى دورها الكوني شاهدة على العالمين. انتهى

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock