تدوينات تونسية

وعيد هنيّة

الطيب الجوادي 

– والله كان تعملها إلاّ ما انحّي منّك لحمة، وإلاّ نكويك بالنّار

إنّه وعيد هنيّة الذي لم تنفّذه في الواقع أبدا، فوقر في ذهني، أنّه مجرّد كلام تخيفني به لا غير، فهي ليست غولا يمشمش ضحاياه كما في خرافاتها وليست ذئبا لتنهشني ،ولم أكن أصدّق أنه من الممكن أن تفعلها وتكويني بالنار كما يفعل الفلاحون عندما يسِمُون دوابّهم بالنّار لتمييزها عن غيرها ،حتى ضبطتني والمنصف ولد عمّي نلعب الخمس حجرات تحت سور المدرسة المقابل للمستوصف في حين كان عليّ أن أكون في الفصل في حصة العربية عند سيدي محجوب، بمجرّد ان لمحتها قادمة وفي حضنها أختي الصغرى التي كانت تعاني من مرض العوعاشة، تجمد الدم في عروقي وأصبت بشلل تامّ واجتاحني خوف نحاسيّ قاتل عطّل كل مداركي وحواسّي، فلم أحاول الفرار كما فعل المنصف ولد عمّي ولم أحرّك ساكنا.

سيرة الطيب ولد هنية
سيرة الطيب ولد هنية

سمعتها تهمس لي، وهي تحاول السيطرة على الغضب الذي جعل وجهها أقرب لكرة نارية ملتهبة
– برّة روّح اسبڤني، نعدّي على أختك، وهاني جاياتك والله إلا ما ناكلّك ڤلبك، ونكويك بالمنجل

انطلقت نحو الدوّار لا ألوي على شيء، تتقاذفني الهواجس ويلتهمني الخوف والتوجّس، وآلاف الأصوات الناعبة الناعقة تطرق جمجمتي بلا رحمة: “هذه المرّة، ستدفع الثمن باهظا، لن تسامحك هنيّة، وستسلّط عليها أقسى عقوبة ممكنة”.

كنت مقتنعا بيني وبين نفسي أنني أستحق كل ما سيحصل لي، وأن تخلّفي عن الدرس أمر شنيع ما كان يجب أن يحصل، ومما زاد في شعوري بالذنب أنني لم أجد لي أيّ أعذار أو تعلاّت يمكن أن تشفع لي أو تخفّف عني العقاب وعذاب الضمير، فقد كانت هنية تردد أمامي دائما:
“نايا مستعدّة نضحّي عليك بعمري وبكل شيء، نبيع دجاجاتي، نبيع البطانية، نبيع الدّنيا لكلّ، المهمّ تقرا وتولّي راجل” ولكنّي خنت الأمانة مع ذلك، خنتها بكل سفالة ونذالة، وظللت أكذب عليها أسبوعا كاملا مدّعيا لها أنني “قاعد نقرا على روحي ونتبّع في كلام سيدي”، بينما كنت أشارك المنصف ولد عمي وأصدقاءه مباريات “الخمس حجرات”، تحت سور المدرسة!

وفي أوج الظلام الكالح الثقيل الذي غمرني من كلّ جانب، لمعت في ذهني فكرة، صرخت أعماقي “الله وحده كفيل بأن يخرجني من هذه الوضعية، أليست هنية تلجأ إليه في كلّ مرّة تضيق بها الدنيا، فييسّر لها سبيلا للخلاص”.

وما أسرع ما توضّأت ودخلت في جبة أبي وشاشيته، وانخرطت في صلاة طويلة حارّة بعيون مضمّخة بالدموع، وقلب واجف، وأعصاب مشدودة تقطعها نداءات ملحّة لخالقي اللطيف الغفور الرحيم أن يغفر لي زلّتي ويتجاوز عن خطيئتي، واعدا إيّاه ألا أعود لفعلتي أبدا، في الأثناء تناهت لي خطوات هنية وهي تقترب من باب الغرفة فارتفع صوتي بالدعاء ومعه وجيب قلبي ولم تعد ركبتاي قادرتين على حملي، دلفت هنيّة إلى الغرفة فتفاجأت بي واقفا أصلي وأدعو الله، فغطت شعرها ووقفت بجانبي وراحت تدعو بدورها
– “يا ربي يا عالي، كان الطيب ولدي يهرب من درسو المرة الجاية اعميه واصميه وخلّيه يدهدس”
-آآآمين، أمّنت على دعائها بكل حرارة وقوّة فغلبها الضحك واحتضنتني، وهمست لي:
“هاو ربّي شاهد عليك، ردّ بالك”
ولم أتخلف عن أي درس حتى تخرّجت.

سيرة الطيب ولد هنية

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock