تدوينات تونسية

لن تكون أبدا في حاجة إلى عقل

الطيب الجوادي 

كان على هنيّة أن تفكّ اللغز الي أقضّ مضجعها منذ ولادتي: لماذا كنت أحرك رأسي بسهولة كبيرة، ويصدر عن رأسي صوت شبيه بصوت الإناء الفارغ، عندما يصطدم بأي جسم، بما يشي بأن جمجمتي تخلو من الدماغ!

عقل
عقل

وقد روت لي بعد ذلك أنها كانت تنقر بسبّابتها على رأسي لتتأكد بنفسها من الأمر، في غياب أجهزة الكشف بالأشعة في مستشفى الكاف في ذلك الوقت، وقد طمأنها سي محجوب مدير المدرسة الابتدائية لما قصدته لتسجيلي في السنة الأولى ابتدائيّا بأن عدم وجود عقل في رأسي هو دليل عبقرية وبشير نبوغ مبكر! “وابنك هذا -أي حضرتي- سيكون بلا شكّ رجلا خطيرا”، طمأنها.

لكنّ الصعوبات الحقيقية بدأت بعد دخولي المدرسة فقد اكتشفتُ أن أترابي كانوا يحلون مشاكل الحساب بسهولة غريبة مهما كانت مستعصية، في حين أعجز أنا عن حل حتى البسيط منها.. وحين بحتُ بهواجسي إلى أحد مُعلميّ، تنحنح وحك صلعته وهمس لي: -يا بُني لا تبتئس، أؤكد لك أنك لن تكون أبدا في حاجة إلى عقل، عش حياتك بدون تفلسف وافعل كل شيء دون أن تفكر، وستكون أسعد الناس!

ولم يدر معلمي هذا أن وصيته ستقودني طيلة عمري فيما بعد فسرعان ما اكتشفتُ أنه لا فائدة أن نمتلك شيئا لن نستعمله أبدا! كما اكتشفتُ بالدليل القاطع أنه لا أحد في عالمنا العربي البائس قادر أن يستعمل عقله لمرة واحدة، والذين حاولوا هم إما في السجن أو في القبر!!

وكانت هنية تطمأنني وهي تحتضنني بحنان، بأنّ النقص الذي أعانيه، لن يؤثر سلبا على حياتي، ففي كل الأحوال: الله الذي في السماء هو الذي خلقنا، والولي الصالح سيدي حميدة بن خضر هو المتحكم في مصائرنا وكل ما يحصل لنا من خير وشرّ، وبورقيبة هو الذي يعرف ما يصلح لنا وما لا يصلح، وأبي لا يمكن أن يكون على حقّ أبدا، والكسكسي بالعلوش هي أفضل أكلة على الإطلاق، والشاي المنعنع هو الذي “يعمّر الراس”، وما نحن فيه من فقر مدقع هو قدر لا فكاك منه، وزواجي من نعيمة بنت عمي عندما أكبر لا هروب منه، ورسوبي في السيزيام (الابتدائية) ومن ثمة التفرغ لرعي أغنام العائلة مقدّر قبل ولادتي وبالتالي تتساءل مستنكرة:

  • وراس ولدي ماهو باش ينقصك شيء، وقول هنية قالتها، قبل أن تضيف واثقة:
  • تي محسوب اللي عندهم مخاخ واش عملو بيها؟

اترك رد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock