إذا أتاك حديث “الكازي” و “الكوازي”
عبد السلام الككلي
من الأكيد أن قضية الصحفي المناضل زياد الهاني والذي وقع الاحتفاظ به يوم 28 ديسمبر 2023 من قبل النيابة العمومية بعد أن مثل في اليوم نفسه أمام الفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات واتصال بثكنة الحرس الوطني بالعوينة ستدخل تاريخ القضاء التونسي في القضايا المتعلقة بحرية التعبير وستسمى في سجل القضاء Les annales de droit قضية «الكازي» مثل كل القضايا التي تثير الجدل في تاريخ الأنظمة القضائية فيسند لها اسم تعرف به مثل قرار «حورية» الشهير أو قضية القتل «OMAR M’A TUER» التي اتهم فيها باطلا البساتني المغربي عمر الرداد.
وقد أحيل الصحفي من أجل نعته وزيرة التجارة بـ «الكازي» في برنامج émission impossible على راديو إي أف أم وقد استنكر فريق البرنامج، الاحتفاظ بالمحلّل السياسي في البرنامج والإعلامي زياد الهاني،.
وقال الصحفي مراد الزغيدي إذا كانت وزيرة التجارة هي التي اشتكت به فكان عليها أن توضح الموقف، مشيرا إلى أن كلمة «كازي» التي نطق بها الهاني لا تمس بسياسة الدولة ولا من الأخلاق وليست معروفة في المعجم العربي على أنها كلمة عنيفة ولا يمكن لأية مؤسسة تعديل للقطاع السمعي والبصري أن تعاقب على هذه الكلمة.
وأكد العياشي الهمامي أن النيابة العمومية هي التي تحركت من تلقاء نفسها وأثارت الشكوى ضد زياد الهاني، موضحا «النيابة وفي إطار مراقبتها للوضع في البلاد.. لاحظت فيديو متداولا ظهر فيه زياد الهاني بصدد تقييم عمل وزيرة التجارة وقال إنه في حال تعذر عليها القيام بعملها على رئيس الجمهورية أن يقيلها «بدل الكازي» والنيابة اعتبرت في ذلك جريمة يعاقب عليها القانون.. والجريمة الموجهة للهاني تكمن في نشر أخبار زائفة ونسبة أمور غير حقيقية وفق الفصل 24 من المرسوم 54.
وينص الفصل 24 من المرسوم الفصل 54 على انه –يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان.
ويعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر، أو إشاعة أخبار ،أو وثائق مصطنعة، أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية.
وتضاعف العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه.
المرسوم 54 مرة أخرى ودائما
مرة أخرى نصطدم بنفس المعضلة المتعلقة بالإجراءات القضائية في هذه القضية أو في غيرها من القضايا التي يحال فيها صحافيون على مقتضيات بعض فصول المجلة الجزائية أو على مقتضى هذا القانون الخاص وهو المرسوم 54 الذي تحوّل إلى سيف مسلط على رؤوس الصحافيين والحال أنه من المنطقي والمعقول أن يحال أي صحافي ارتكب مخالفة مهنية على معنى المرسومين 115 و116 اللذين ينظمان المخالفات في ميدان الصحافة ويحددان معايير العقاب فيها.
لا شك أن الصحفي مواطن ويعاقب مثل غيره إذا خالف القانون غير أن الصحافيين ما انفكوا عن المطالبة بإحالتهم وفق المرسومين المذكورين ليحاكموا طبق فصولهما إن ثبت أن ما قاموا به يمثل جريمة تستحق العقاب. » مع العلم أن زياد الهاني وفق ما أورده الأستاذ المحامي العياشي الهمامي رفض الإجابة على أسئلة المحقق بسبب إحالته على معنى المرسوم 54 لا على معنى المرسومين 115 و 116 هذا وكان الصحفي زياد الهاني نصح كل زملائه في مناسبات كثيرة سابقة وبمناسبة إحالة بعضهم على القضاء عن الامتناع عن الإجابة عن أسئلة الباحث إذا اتهموا بأي تهمة لها صلة بعملهم الصحفي واذا ما أحيلوا على غير المرسومين المذكورين سواء كانت المجلة الجزائية أو المرسوم 54.
حديث «الكازي» و «الكوازي»
سيكون محمولا على القضاء إذا ما سلمنا بانعقاد الاختصاص له مع وجود المرسومين عدد 115 و 116 والهايكا أن يعرف كلمة «كازي» التي قد تؤدي إلى وضع مواطن وصحافي خاصة في السجن بمجرد التلفظ بها تجاه شخص أخر.
على القضاء أن يعّرف بكل دقة معنى الكلمة في الدلالة المعجمية نزولا الى أصلها إذا توفق إلى إيجاد هذا المعنى إذ لا يعرف لها بدقة اشتقاق أو أصل في اللغة العربية رغم أنها صرفت جزئيا فاشتق منها جمع تكسير وهو «كوازي» كما انه لا يعرف لها صلة واضحة قطعية بلغة أخرى الشيء الذي يجعل منها اقتراضا لفظيا (هل لها صلة بلفظ quasi في الفرنسية وباللاتنية quasi بمعنى شبه أو تقريبا ؟).
أو على القضاء إذا استحال وجود تعريف معجمي عربي أو اقتراضي أن يجد مدلولا دقيقا للكلمة في المعنى التداولي (عرف الاستعمال) غير أن هذا الأخير غير متفق حوله هو أيضا بل نسجت حوله حكايا وأساطير لا صلة لها بالبحث اللغوي وليس هذا المجال التوسع فيها.
إن الوقوف على المدلول المعجمي أو في الاستعمال سيتوقف عليه وجود أو عدم وجود الركن المادي للتجريم وهو ينحصر في لفظ بعينه وكذلك الركن المعنوي المرتبط بإرادة الثلب والتشهير بما هو القصد الجنائي من استعمال هذه العبارة المتداولة لدى التونسيين حتى لا يتم إيقاف الأشخاص مباشرة وإحالتهم على المحاكم بمجرد التلفظ بعبارة لا احد يعرف لها مدلولا قطعيا لان كلمة كازي وجمعها «كوازي» تكاد تكون من نوع المشترك اللغوي التي تستعمل في بعض الأحوال للملاطفة وكسر الحدود بين أشخاص لا كلفة بينهم. ولان التجريم لا يمكن أن يتأسس على الملتبس والمشكوك فيه.
بل إن عبارة كازي يقال أيضا في سياق المدح إذ ذهب العديد من الناشطين إلى ملاحقة معنى الكلمة لغويا، ووجدوا أن “كلمة كازي (وجمعها كوازي)” تستعمل للإشارة إلى شخص لا نكن له الاحترام. وهي مستعملة في اللهجة الليبية بمعنى الشخص الممقوت وغير المرغوب فيه، وهي من أقدم الاستعمالات الموثقة التي عثر من اللهجة الليبية وهي عبارة ترحاب بالدكتاتور الإيطالي موسوليني أثناء زيارته إلى ليبيا سنة 1937: “مرحبتين بكازي روما من غيره ما فيش حكومة”.
وأضافوا أن “من السياق يبدو أن للكلمة معنى إيجابيا إذ تمجد العبارة مسيرة موسوليني المسلحة إلى روما ومسكه بزمام أمورها، وهناك من رجح أن كلمة كازي “تعود إلى كلمة gazi التركية وأصلها غازي بالتركية العثمانية، من العربية غازي، بمعنى المنتصر. وهي من الألقاب التي كانت تسند للسلاطين والقادة العسكريين العثمانيين. كما أسندت لمصطفى كمال باشا (أتاترك) سنة 1921 إثر معركة صقاريا. ثم اكتسبت الكلمة معنى سلبيا على الأرجح لدى من قاوموا الاستعمار الفاشي خاصة بعيد سقوط الدكتاتور الفاشي وسقوط أنصاره ومن تواطأ معه في ليبيا[1]”.
صحيح إن اللغة واستعمالاتها قد تشكل جريمة في أحيان كثيرة تتعلق بالثلب أو بغيره من الجرائم ولكن اللغة لا يمكن آن تجرم مواطنا وصحفيا وتضعه في السجن (بقطع النظر عن الحالة الصحية للهاني التي يعرفها الجميع) متى كانت ألفاظها ملتبسة ولا احد يعرف لها معنى دقيقا أو دلالة قاطعة بل أننا نميل إلى الاعتقاد أنها كما قلنا من نوع المشترك اللفظي المجتمعي (اشتمال لفظ واحد، على عدة معان واستعمالات كثيرة في سياقات متنوعة) وهذا هو الحال في ما يتعلق بكلمة «كازي».
بالمناسبة استمعنا الى صحفي في قناة خاصة معلقا على هذه الحادثة يقول أن الأمر كله يتعلق بسوء فهم، نطقها بالفرنسية Malentendu.
نرجو أن يكون الأمر مجرد سوء فهم (رغم اعتقادنا أن الأمر ابعد من ذلك بكثير إذ يتعلق بخنق حرية التعبير من اجل تركيز أركان حكم الفرد) لأننا في حالة زياد الهاني لا نعتقد أن اللغة رغم كل مقالبها يمكن أن تقود مواطنا إلى السجن وإلا أصبحت كل ألفاظ المعجم أو الاستعمال سواء عرفنا مدلولها أو لم نعرف تقود إلى فقدان الحرية.
اذكر أن أستاذا لنا بالجامعة التونسية في اختصاص الأدب القديم أظنه الأستاذ النجار كان يقول لنا أحيانا أن أسباب الحرب لغوية. كان يقولها بالفرنسية: “L’ origine de le guerre est grammairienne”.
لسنا هنا بلا شك أمام حرب ولكننا أمام سوء فهم لغوي لا يجوز أن يحمل صحفيا مناضلا الى سجن المرناقية.
ولنفترض أن المشكلة تتعلق هنا بسوء فهم… لنقل مثل استأذنا الجليل: L’ origine du malentendu est” grammairienne”.
اخبرا لا نذكر انه تمت مقاضاة شخص جزائيا سابقا لاستعماله لهذه العبارة في أي زمن من الأزمنة. ولهذا فانه سيكون لها منذ الآن مضمون ولادة قضائية لتبقى في ذاكرة القضاء.
ولكن بعيدا عن كل هذا الخطاب اللغوي تظل الأسئلة الجوهرية في هذا الخضم تخص ضمانات المحاكمة العادلة وأساسها استقلال قاضي النيابة العمومية والمجلس عن السلطة التنفيذية والحال أن القضية متعلقة بعضو سلطة تنفيذية وهي وزيرة التجارة وفي سياق قانوني وسياسي أصبحت فيها السلطة التنفيذية نفسها هي المتحكمة كليا في النيابة العمومية.
فالمظنون فيه يحال بموجب مرسوم صنع من السلطة التنفيذية في غياب مجلس نيابي لمحاربة حرية التعبير. اي وضع نحن فيه حين تتحول النيابة العمومية الى خصم وحكم في تكييف الأفعال وتوجيه التهم وفي ظل القضاء الذي تحول الى وظيفة بموجب الدستور… وهل ننسى قول الرئيس متحدثا عن القضاة في علاقتهم بالمتهمين «من يبرئهم فهو شريك لهم» ؟
ثم إن تقييم أداء القضاء في تطبيق القانون بعدل وحياد تجاه الجميع يتعين النظر إليه في الإطار الأشمل لتطبيق المرسوم 54 فالمتابع لنشاط النيابة العمومية بخصوص تطبيق هذا المرسوم من تلقاء نفسها ليس من الصعب عليه أن يلاحظ أن ذلك التحرك يتم غالبا لفائدة أعضاء السلطة ضد منتقديها دون التحرك آو التحرك ببطء شديد كلما كان منتقدو السلطة أو المعارضون السياسيون ضحايا الثلب والتشويه والمغالطات باستعمال ألفاظ أو كيل اتهامات أو نشر إشاعات هي افظع واخطر وافدح من عبارة “الكازي” من قبل مناصري الرئيس رغم تعهيد النيابة العمومية بعشرات القضية ضد هؤلاء.
فلقد رفعت عشرات الدعاوى ضد شخصيات ومنظمات تدعي الدفاع عن الرئيس من اجل الثلب والتشهير دون أن تحرك النيابة ساكنا تقريبا وإذا ما أثيرت الدعوى فانه لا يحال أي من القائمين على هذه الصفحات كما لم تصدر في حق أي واحد منهم أحكام رغم أن البعض منهم معروفون بالاسم ويتكلمون من تونس مثل صفحة منسوبة لمحامية احترفت هتك أعراض شخصيات عامة قدمت ضدها عشرات القضايا ولكن دون طائل [2].
أخيرا إن الحديث عن إيقاف صحفي على خلفية تصريحات صحفية أصبح يجابه اليوم بالخطاب الشعبوي «موش على راسو ريشة» فلماذا يتم في نظر البعض الحديث عن الصحفي والتجند من أجله ولا يتم التصرف بمثل هذا الحماس للحرية عندما يعني الأمر عامة الناس.. ؟ يجب أن نذّكر هنا أن الصحفي المستقل ليس من عامة الناس لان طبيعة دوره مسألة حيوية في أي نظام ديمقراطي وعمله هو من صميم المصلحة العامة ومصلحة المجتمع لخلق التوازن بين السلط حتى لا تتغول السلطة على المجتمع دون رقيب.. لذلك من الضروري الاستنفار للدفاع عن الصحافيين دفاعا عن دولة القانون ولان التتبعات التي استشرت هذه الأيام ضد الصحافيين الأحرار وباستعمال المرسوم 54 تكرس واقعا من الهينة وخنق حرية التعبير وتهدد بالقضاء تماما على التجربة الديمقراطية الوليدة في تونس.
هوامش
[1] “كلمة «كازي» قضية رأي عام في تونس بعد توقيف صحافي بسببها” العرب 30 ديسمبر 2023
[2] صفحات التشويه وصراع الأشباح في نظام حكم الفرد بقلم عبدالسلام الككلي إسطرلاب 25 أوت 2023