مقالات

نداء إستغاثة للقاضي البشير العكرمي من سجنه ..

القاضي البشير العكرمي

“سامحوني شي أقوى مني .. أمور تتجاوزني .. يا أنا يا هو في الحبس” هكذا علّل قاضي التّحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب قراره بإصدار بطاقة إيداع في حقّي بتاريخ 10 مارس 2023 وذلك بحضور جمع من المحامين الذين كانوا إلى جانبي ساعة مثولي أمامه بعد أن جرّح في نفسه.

هذه العبارات التي نطق بها على إستحياء قاضي التّحقيق، مازال صداها يطرق مسامعي كل يوم من هذه الأيام الثقيلة المضنية التي أقضيها في عزلتي بالسجن، وعلى قساوتها وقساوة الوضع الذي أفرزته بأن سلبت مني حريتي وقبرتني في غياهب مكان مظلم وقاتل، إلا أنّها بقيت في الحقيقة إحدى المصادر القليلة الباقية للصّبر والتجلّد، إذ جعلتني أستوعب سبب بقائي هنا إلى حدود هذه اللّحظة وأغفر الى حدّ ما للقضاء، وليس للقضاة الذين يحاكمونني، خطيئة محاسبتي على أعمال قضائية أجزم أنّي قد وفّقت فيها وأتممتها على أحسن وجه.

هل من ظلم أشد مضاضة من أن تتحوّل العدالة الى مساومة بين أن تَسجِن (بنصب التاء) أو تُسجَن (برفع التاء)؟ هل من جور أفظع من أن يختار قضاة ظلم زميلهم على أن يسجّلوا موقفا تاريخيّا مشهودا يقفون بفعله أمام النّاس وقفة عزّ وإباء وشموخ؟

أحاكم اليوم بعد مسيرة إمتدّت لأكثر من ثلث قرن “34سنة”، باشرت خلالها خططا قضائيّة عديدة وتنقّلت فيها بين مكاتب التّحقيق ومكاتب النّيابة دون أن تتعلّق بي أيّة مؤاخذة تأديبية أيا كان نوعها، تلك المسيرة التي تكللت سنة 2016 بمنحي خطّة وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس أين أشرفت على إدارة البحث في أكثر القضايا الإرهابية تعقيدا، والمالية تشعّبا في فترة تزامنت مع بعث قطب مكافحة الإرهاب والقطب الاقتصادي المالي، تلك المسيرة عصفت بها جملة من الشكايات الكيدية تقدم بها طرف سياسي لم يستسغ الحقيقة القضائية التي توصّلت إليها بمناسبة تعهدي بملف إغتيال الفقيد شكري بلعيد والمضمّنة بقرار ختم البحث الذي ناهز 500 صفحة، وظل يسعى الى تدليسها وتشويهها حتى بعد إقرارها من قبل قضاة دائرة الإتّهام ثم قضاة محكمة التّعقيب، دون أن يطال أي قاض منهم ما طالني من كيد ومكر واتهامات، تجنّبت الردّ عليها وآثرت السّكوت ظنّا منّي أنّ العدالة لا تنصت إلى الكذب والتّشويه والزّيف وأنّها لا تصيب النّاس بظلم بفعل الأراجيف الباطلة والخدع المفضوحة. ولن أخفي عنكم اليوم ندمي عن موقفي هذا بعد أن تغيّرت قناعتي وتصوّري لما يسمى عدالة.

لم تكن الغاية من الحملات التي إستهدفتني وأنا بمكتب التحقيق 13 بالمحكمة الابتدائيّة بتونس ثم وأنا وكيل جمهورية بذات المحكمة سوى جرّي نحو توريط طرف سياسي وتصفية حسابات سياسيّة كنت ومازلت وسأبقى أبعد ما يكون عنها وعن أهلها، وحين رفضت أن أكون بيدقا وتمسّكت بإستقلاليّتي، نالتني السهام والنصال وأنتهى بي الحال سجينا بفعل بطاقات إيداع سيذكر التّاريخ من أصدروها بما يستحقون.

كما يذكر التّاريخ وسيذكر أن البشير العكرمي لم يتول فقط التّحقيق في قضيّة إغتيال الفقيد شكري بلعيد بل تولى النّظر كذلك بنفس الإقتدار والمهنيّة في ملفي عمليتي باردو وسوسة الإرهابيتين، تاريخ الأولى 18 مارس 2015، والثّانية 25 جوان 2015، إذ شاركت في هاذين الملفّين قرابة 12 دولة أجنبيّة بأجهزتها القضائية وضابطتها العدلية وأجهزة إستعلاماتها عن طريق إنابات قضائية وتمّت المصادقة على كل أعمال التحقيق، التي تأيدت أيضا بالمصادقة عليها من طرف دوائر الإتهام ومن بعدها الدوائر الجنائية الإبتدائيّة والإستئنافيّة، وأصبحت الأحكام نهائيّة وباتّة.

كل هذا نتج عنه تكريمي من طرف محاكم أجنبية عليا ببريطانيا وبلجيكا وفرنسا لقاء حرفيّتي في معالجة الملفّات الإرهابيّة، في المقابل تنسب إلي في بلدي جرائم إرهابيّة بناء على شكايات كيديّة مقدّمة من طرف حزب سياسي تواطأ فيها لاحقا لوبي قضائي، إنّها مفارقة قاسية ومؤلمة أن تكرمك دول أجنبيّة من أجل مجهودك في مكافحة الإرهاب وكشف حقيقة قتل رعاياها وأن تحاكمك دولتك من أجل الإرهاب.

أوجّه ندائي هذا، إلى كل المنظّمات الوطنيّة والدوليّة العاملة في مجال إستقلال القضاء، إلى الشّخصيات الحقوقيّة في إطار ما أتعرّض له من مظلمة صارخة تجاوزت كافّة المواثيق والأعراف والتّقاليد الدوليّة بأن يتم سجن قاض من أجل أعمال قضائيّة تأيدت إستئنافيا وتعقيبيا.

أتوجه بندائي هذا إلى زملائي وزميلاتي من القضاة، وأدعوكم الى التمعّن في خطورة الوضع الذي آل إليه القضاء اليوم بأن فتح الباب إلى مساءلة القضاة جزائيّا عن أعمالهم وأحكامهم وقراراتهم، وسجنهم إن إقتضى الأمر، أخشى أن لا يوصد هذا الباب مستقبلا، الأمر بيدكم أنتم دون سواكم، أما أن تستمروا في إزهاق ما تبقى من إستقلاليتكم أو أن تضعوا حدا لكل هذا الظّلم والجور والتعسّف.

القاضي البشير العكرمي،

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock