أوهام صور الانكسار واستدامة الثأر
مهدي مبروك
لم يعد التأكيد على أن الصورة جزءٌ من عتاد حربي باطش اكتشافا، وهي قد تتفوق في عدوانها وتدميرها على الرصاص والقنابل.
تنتهي الحروب وتخمد وغاها، ولكن صورها تظلّ محفورة في ذاكرة المنتصرين والمغلوبين معا، وإنْ بأشكال متفاوتة. في غمرة الزهو والانتصار، ينسى الناس أصوات مدافعهم ودوي قنابلهم، ولكن الصور التي كانوا فيها ضحايا أو جلادين تظلّ تراودهم وتقضّ مضاجعهم. منحتنا التقنيات الحديثة التي صاغت الميديا الجديدة خزّانات رهيبة وإمكاناتٍ عددية لخزن الصور، تهذيبها، ترويجها، تشويهها، وتزييفها، حتى غدا الإعلام صورةً على حساب الكتابة. لا ينتبه الناس، عادةً، إلى مضامين الكلام وتفاصيل القول، ولكن الصور تستفزّ جلّ حواسهم ومشاعرهم، كما انتبهت البشرية أيضا إلى مخاطر الصورة حين يجري استنزافها، إذ هي تموت، سواء في وقعها وأثرها، حين يتم استهلاكها بكثافة.
انتهت الحرب الإيرانية العراقية، ولكن بعض الصور ظلت عالقة، كما خمدت الحرب على العراق في شوطها الأول أو الثاني، وقد كان أكثر إيلاما ودمارا، ولكن بعض صورها ما زالت غارسة أنيابها في ذاكرتنا. جرى الاشتغال بشكل رهيب على الصورة من المتحاربين، وهذا جزء من المعركة النفسية. بل هناك ترسانة خاصة لخوض معارك الصورة، بقطع النظر عن وقعها النفسي والذهني. ثمّة انزياح مهم في تعويض الحرب النفسية بحرب الصور، فللصورة آثار غير نفسية بالضرورة، بل تتجاوزها لتعيد تشكّل الإدراكات الذهنية وتمثلات الذات والآخر.
تضمّنت الصور التي تسرّبت من هجوم “حماس” يوم 7 أكتوبر عناصر إذلال كثيرة تقصّدت خدش صورة الجيش الذي لا يقهر. انتبه الناس، في الساعات الأولى من الحرب، إلى يسر التوغل في مسافات ظلت عقودا “ممنوعة وقاتلة”. وإذا بتلك المسافات تطوى، وتنهار التحصينات المتينة التي أقامتها إسرائيل، حتى اطمأنّت إلى أنها غير قابلة للاختراق. كانت الصورة التي أرسلتها المقاومة مصرّة على تشكيل القناعة الذهنية واليقين النفسي بأن المسافة تطوى والحصون تُخترق والعدو يصاب، إنها مسافة صفر. هذه هي العناوين الذهنية للصورة في مفرداتها العديدة التي وصلت تباعا. كان التقسيط ممنهجا وعن تخطيط، ذلك أن المعركة “الخاطفة” كانت تحتاج استطالة الشعور النفسي الذي تُجليه مشاعر الفخر واليقين. وتريد بهذا أن تستعيد ألق صورة أطفال الحجارة والانتفاضة ومحمد الدرّة وغيرها من صورٍ جلبت تعاطفا دوليا كبيرا مع الفلسطينيين عامة. توقّفت الصورة عن إنتاج المعنى عقدين أو أكثر، خصوصا مع تعمّد إلباس المقاومة بالإرهاب. مع ذلك، ساهمت هذه الصور المتناثرة في إيجاد كثافة رمزية كبيرة. الكوفية واللثام ومقلاع الحجارة وعدة رمزيات أخرى غدت مرجعيات رمزية، فضلا عن إغناء المعجم اللغوي بمفرداتٍ عديدةٍ دخلت جل القواميس الأجنبية. على هذا النحو، استبقت الصورة اللغة وجرّتها إلى مجالها الرمزي.
انتبه المختصّون، أكثر من أي وقت مضى، إلى جسامة الصورة في الحرب، تحديدا بعد حرب الخليج. لم تكن الصورة حاضرة في الحرب العالمية الثانية، إذ نعلم أن آلة التصوير لم تكن آنذاك متاحة حتى لمراسلي الحرب. وأقصى ما نعثر عليه توثيق سينمائي لمجرياتها. كانت الصورة عن الحروب تُؤخذ من بعيد. يختفي البشر عادة لنشاهد جيوشا وعربات تمرّ ومسافات تُطوى وبنايات مهدّمة وجسورا منهارة. كانت صورة “الأبيض والأسود” حاضرة في الحروب، ولكنها بعيدة عن المحاربين والضحايا.
لا تشتغل صور الحرب على الإقناع العقلي، بل على إحداث الصدمة والذهول وكثير من مشاعر التعاطف والكراهية. وحين تسرّبت صور فلسطينيين، أخيرا، وقد جرى تجريدهم من بعض ملابسهم، وبقطع النظر عن هوية من التقط الصورة ومن بثّها، حرصت إسرائيل على الاستفادة الرمزية والمادية منها، وهي بهذا تتوهم أنها تكسر عزيمة المقاومة، وتردّ على صور جنودها وتحصيناتهم التي انهارت في 7 أكتوبر، كما أنها تحرص عبثا على إذلال الفلسطينيين والمقاومة، وهي تشي، بين حين وآخر، بأنهم نخبة القوات وقد استسلموا.
تحفر إسرائيل في أخدود الثأر واستدامة المعركة على صعيديها الرمزي والمادي، وتجعل الردّ متخلدا بذمة الفلسطينيين، ولو لقرون مقبلة. تجري المعركة على الميدان، ولكنها ليست أقل ضراوة مما يجري في مستوى الرموز والصور، غير أن المحيّر أننا ما زلنا نهمل صناعة الصور والعناية بها من أجل أن تكون ضمن عتادنا. الاختراقات التي جازفت بها وسائل الإعلام العربية أو حتى غيرها لتنقل لنا صورا أخرى خارج السردية وخارج سجل الصور الإسرائيلية مهمّة، ولكنها تحتاج إلى اجتهادٍ كثير، حتى لا تبقى مجرد نياتٍ حسنة.
العربي الجديد