لماذا أنا لست “إعلاميا”
كمال الشارني
في بطاقة التعريف ليس هنا مهنة اسمها إعلامي أو أستاذ تربية وطنية وفي أوقات فراغه إعلامي، مجانا أو بمقابل، ثمة مهنة اسمها صحفي وثمة بطاقة احتراف رسمي وبطاقة انخراط في نقابة الصحفيين، ويفترض أنها تمنح فقط لمن تتوفر فيهم شروط الممارسة الصناعية لمهنة الصحافة بصفتها المصدر الوحيد للرزق، يعني لا يمكن أن تكون محاميا أو ممرضا أو شرطيا أو عاملا يوميا أو “شخصا قلقا” وصحفيا في نفس الوقت، إنما يمكن لهؤلاء أن يفرضوا على وزارة الداخلية إضافة ركن في بطاقة التعريف تحت ركن المهنة، ركن الهواية: إعلامي، الخلاصة: ثمة من يقتل الحنش وثمة من يتصور معه من أجل الوجاهة.
أنا أمارس عملا صناعيا اسمه الصحافة تماما كما يدرسه ويمارسه الصحفيون في بنغلاديش واليمن واليابان والولايات المتحدة أو سويسرا أو تونس وذلك منذ أن انتقلت الصحافة من باب الهواية والصحفي الموسوعي الذي يعرف كل شيء في عالم من الأمية والجهل إلى صحافة الاختصاص والمعرفة وجدولة العلوم في عالم يضج بمصادر الإخبار، الآن ندرس الخبر بنفس الطريقة كما الريبورتاج كما الحوار أو القصة الخبرية أو الاستقصاء أو التصوير الصحفي حيث نبحث عن الحركة والتأريخ مثلا، هو انتقال طبيعي بناء على جملة الخبرات التي راكمتها الإنسانية في علم ومهنة الصحافة من التأريخ اليومي إلى إعطاء معنى لما يحدث للناس، وهذا ما يصنع الفارق بين الصحفي الذي يفترض أن تثق بمصداقية ما يكتبه بناء على القواعد العلمية الكونية والإعلامي والكرانكة (chroniquer) والذين فشلوا في مهنهم الأصلية فأرسلتهم أجهزة الدولة في مهام غامضة تحت حمايتها إلى وسائل الإعلام رغم أنهم لا يفرقون بين الخبر والتعليق مقابل أجور خمسة صحفيين محترفين لكل واحد منهم.
الصحفي ليس بالضرورة خريج معهد صحافة، لقد اتجهت أغلب جامعات الصحافة في العالم إلى قبول طلبة الاختصاصات ذات العلاقة لدراسة الصحافة كاختصاص أخير، إنما التكوين الحقيقي يكون في مؤسسة الصحافة، بدءا بملحق بالتحرير ثم تلخيص برقيات وكالات الأنباء وصولا إلى الأهم: العمل الميداني، أغلب من ترونهم في وسائل الإعلام بصدد الفتوى لم ينجزوا ريبورتاجا واحدا ولم يحضروا أي حدث مؤثر، يسمونها الصحافة الجالسة.
لا يدخل في مهنتي أن أصبح مشهورا أو نجما أو صاحب رأي، عندما أرتقي في مهنتي أصبح كاتب “مقالات خبرة” وقد أؤلف كتبا في مجال اختصاصي فأصبح مرجعا يطلبني زملائي لأنقل لهم تلك الخبرة التي تساعد في إعطاء معنى لما يحدث، عندما أقضي ربع قرن في تغطية أحداث الصحة مثلا، أصبح صحفيا خبيرا في الصحة فقط، مرتبطا بحدود مهنتي وأؤلف فيها الكتب لإعطاء معنى لخبرتي، عندما أغطي ثلث قرن من الانتخابات في بلدي فأنا أصبح صحفيا خبيرا في ذلك المجال لأني عشت كل الاحتمالات ورأيت كل شيء تقريبا وحضرت صناعة الحلول للأزمات في ذلك المجال لكي لا نعيد اختراع العجلة أو الماء الساخن، السادة الكتاب يعرفون حجم الجهد الذي يحتاجه كتاب الخبرة، إنما لست خبيرا في المطلق ولست إعلاميا، وبالله عليكم : اسخروا واضحكوا من أي شخص يقدمونه لكم باسم “كاتب صحفي”، أصلا: ما هي كتبه؟ وما علاقته بموضوع أو وجاهة حضوره؟
“إعلامي” هو توصيف لتعويم مهنة الصحافة وخلطها بالفوضى والكرانكة والظواهر الشاذة للأنستراغموز والشعبوية السخيفة ونشر الأكاذيب والترهات وتتفيه الرأي العام والعبث به، لذلك عندي لكم سؤال: هل فيكم من يعرف اسم صحفي واحد في وكالة تونس إفريقيا للأنباء أو في أية وكالة أنباء عالمية؟ طبعا لا، لأنه لا يدخل في مهنة الصحفي البحث عن الشهرة أو النجومية، تماما مثل الأغلبية المطلقة للصحفيين، نمل خفاء يكتبون التاريخ اليومي، تريدون تعويم جهودهم وسط عبارة إعلامي، التي تحتمل كل شذاذ الآفاق والفاشلين في مهنهم الأصلية، الشكوى لربي وبره.